الفلسفة والأمل في السعادة

السعادة ببساطة ليست فعل مجرد وضرب من الوهم لكنها ممارسة يومية لصيقة بالفرد في صفائه الذهني، وتحرره من كل أشكال الخوف والحرمان، من هنا يكتسب الفرد مناعة قوية ضد أحزان الماضي وتنبؤات المستقبل، يبقى التناغم مع اللحظة والعيش ببساطة ضروريا، الموت انفصال النفس عن الجسد،

2024-10-02

 

الأمل في السعادة تحقيق السعادة، أمل في تحرير الإنسان من التعاسة، وكل ما يصيب الذات من خوف وألم. السعادة ليست مستحيلة، وليست مفارقة في عالم المثل على خطى أفلاطون أو هي التحرر المطلق من الأهواء والرغبات لأن الأمل في السعادة يعني الشعور بالسكينة والهدوء، عندما نحتفظ بهذا الشعور، الذي يصير دائما، ويتميز بالديمومة والثبات، في حالات من الانفعال والغضب، يكون القلق لحظيا ولمدة وجيزة، ذلك أن السعادة شعور بالرضا الذي ينتاب الذات من خلال هذا الشعور الدائم الذي يمكن تمييزه عن الفرح واللذة.

 

السعادة كما تصورها الفلاسفة في كل العصور والأزمنة هي الغاية التي ينشدها الإنسان، والغاية التي يطمح إليها كل من يرغب في تحصيلها، عندما يستطيع الإنسان التخلص من المشاعر السيئة والظن، السعادة كما تصورها الفكر الفلسفي اليوناني، من سقراط إلى أرسطو، وباقي المذاهب الفلسفية، كالأبيقورية والرواقية والكلبية ليست موحدة في الرؤى والغايات، لكن المدخل للسعادة يأتي من خلال الفلسفة والتفلسف.

 

جوهر الفلسفة طريقك نحو السعادة، طريق الصبر والمكابدة للعراقيل والصعوبات التي تنم عن قدرة الإنسان في التجاوز والقدرة على تحديد الممكنات، ورسم للغايات النبيلة، مسارات الحياة مليئة بالتضحيات والتأملات، في معنى ودلالة الوجود، والعيش ببساطة وقناعة، كذلك الانسجام بين الذات والواقع، التناغم بين الرغبة والعقل، وبالتالي ضرورة التحكم في الرغبات الهدامة، والتهذيب لكل اللذات، وتقوية المشاعر بالقيم الأخلاقية والروحية.

 

السعادة حسب أرسطو ممارسة للفضيلة، كمال للطبيعة الإنسانية، العيش وفق المبدأ الأصيل، غاية كل إنسان أن ينعم بالهدوء والسكينة، هنا تكمن السعادة في كل فعل هادف ومقصود، وتظهر الغائية في سلوك الناس، وتولد السعادة لذاتها دون أن تكون وسيلة لتحقيق هدف آخر، أو بمعنى آخر، السعادة استعداد دائم للفضيلة، والفضيلة موزعة بين ما هو فكري وما هو أخلاقي، قيمة الإنسان من خلال ملكة العقل والنطق معا، قيمة في المنطق، وفي قدرة الإنسان على التمييز بين الشر والخير.

 

صفات الإنسان الفهم الجيد وامتلاك حس العدالة، وتمثل معنى الخير والشر، وسبل الارتقاء للحياة الطيبة. غاية الحياة كما يريدها الفيلسوف هي بالفعل متضمنة في الأخلاق “النيقوماخية”، أن يصير الإنسان صالحا بفعل الخير والعمل الجيد، حالة وسطى للفعل بين الإفراط والتفريط، حالة من التوازن للنفس البشرية. رسائل أرسطو لابنه في العيش على الفضيلة، بعيدا عن الرذيلة، والأخلاق السيئة، والانحطاط الفكري والخلقي معا، طبائع البشر وميولاتهم متباينة، تكتسب الفضائل بالمران والتعلم، وهي نتاج للبيئة من جهة، ونتاج للتأمل من خلال الملكات، لذلك يعتبر التأمل العقلي والنظر في الوجود والموجودات قيمة في استخلاص النتائج المهمة في قضية الاعتدال والحكمة، الوسط العادل عند أرسطو يعني الاستقامة والاعتدال في العيش دون إفراط أو تفريط. الحياة الطيبة تسري على النفوس العاقلة، والحياة الشقية تسري على النفوس الخسيسة.

 

تأتينا السعادة متأخرة، متنكرة على هيئة ما ينقصنا، وما نعانيه من حرمان ونقص، لا توجد سعادة فورية ولا سعادة قصيرة المدى. نصير أفضل بفعل تطوير قدرتنا على الانجاز والعمل، قدرتنا على التضحية والتعلم. الحياة تمدنا بالقليل، وعلينا تطوير الأدوات من أجل العيش بسلام، يشمل النمو للحياة بأكملها، السياسة والفن والمجتمع والأخلاق والذات.

 

الفلسفة طريقك نحو السعادة لما ينطوي عليه التفلسف من قيمة في التأمل والتبصر لجوهر الحياة العقلية والأخلاقية، الحياة الطيبة كما يفهمها الفيلسوف ليست وليدة الصدفة، ولا تولد مع الإنسان، بل خبرة الإنسان في الحياة، وتعلمه للفضائل، ومدى قدرته على الاعتدال وضبط النفس، لا تأتي السعادة دفعة واحدة، كما يضرب لنا أرسطو مثالا بطائر الخطاف، طائر واحد لا يدل على حلول فصل الربيع لكن أسراب منها دليل على قدوم هذا فصل أو هكذا نفهم من يعتقد أنه يمتلك السعادة في المال والثروة أو الحسب والنسب أو مجمل الانتصارات في الحياة.

 

تأتي السعادة بالتدريج، على مراحل، وتكتمل باكتمال أعمال ومنجزات الإنسان في الظفر بعدة أشياء خاصة الفضائل الفكرية والأخلاقية، كذلك الظفر بالمنجزات واقعيا والتي تضفي قيمة على أعمال الإنسان. الجوهر مقابل العرض، ومن وراء الأعراض هناك الجوهر الفعلي، والحياة تتضمن الثابت والمتغير في الفكر والقيم، صفة السعادة ميزة خاصة بالإنسان دون غيره من الموجودات، والنفوس العاقلة أشد قدرة على إدراك قيمة الحياة الفاضلة، بالصداقة كذلك يرتقي الإنسان نحو الفضيلة والعيش المشترك.

 

هناك سعادة حقيقة أساسها العقل والاعتدال والتأمل العقلي، وإرادة الإنسان نحو الفعل المحدد بالغاية والفضيلة، هناك موجبات السعادة، وهي أمور عرضية خارجية، لكنها مفيدة ومهمة للزيادة في شعور الإنسان بالسعادة، من قبيل الحسب والنسب، والسمعة الطيبة، والأصدقاء الأوفياء، والمال والذرية الحسنة والصلاح.

 

لم نولد سعداء إلا أننا بفضل ما نمتلك نسعى نحو السعادة، والفلسفة بوصفها تمرينا للذهن، نوع من التأمل في قيمة الأشياء ودلالتها تساعدنا على زيادة الشعور بالسعادة، ليست مشروطة بتوفير التناغم بين الفرد والمجتمع على خطى أفلاطون، لا تعني السعادة الكاملة في عالم المثل، وفي قلب المدينة الفاضلة، السعادة هنا تعني أن يؤدي كل فرد واجبه ووظيفته، ويقدم ما يستطيع في سبيل الارتقاء بذاته، ومداركه العقلية والذهنية، في سبيل أن يحيا الإنسان في مجتمع متكامل ومنسجم دون التجاوز لما يمتلكه الإنسان من طاقات وقدرات عقلية وجسمية، التكامل الروحي والجمال والاتساق والشجاعة والعدل والاتصاف والاستقامة والرزانة مقومات السعادة الأفلاطونية، ومقومات الحياة السعيدة.

 

سعادة الفرد في التناغم بين قواه النفسية، ومدى سلطة العقل على الغريزة والغضب، وسعادة المجتمع في الجمهورية العادلة التي يمتلك فيها الفلاسفة القدرة على التدبير وتوخي الحكمة، فضيلة الحكمة أقوى الفضائل، وغاية الفرد والمجتمع معا إدراك قيمة العدالة باعتبارها أم الفضائل في فلسفة أفلاطون السياسية والأخلاقية. السعادة في التناغم بين الرغبات والأهداف، التمييز واضح بين الرغبات المشروعة والرغبات اللامشروعة، عالم الرغبة الواعية وعالم الرغبات المنفلتة من سلطة الرقابة، وفي سيطرة الغرائز تنحرف الذات عن أهدافها حتى يطغى الجانب الحيواني في الإنسان، وبالتالي يختفي التوازن والانسجام بين قوى النفس الثلاث وهي: القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية. مثالية أفلاطون في إقامة نظام عادل ومجتمع تراتبي، وتمكين الفلاسفة من القيادة كشرط لسعادة الجميع.

 

الفلسفة بوصفها ممارسة للتفكير الحر والتأملات النابعة من الذات، وقدرة الإرادة عل تحقيق الفعل، ترسم الفلسفة معالم متعددة للسعادة والأمل في تحقيقها. حالة مستمرة لفهم الوجود، والتماهي مع الأشياء، إنها محاولة سبر الغامض، حالة من الصفاء الروحي والامتلاء الوجداني، رحلة في أعماق النفس وأعماق الوجود. الأفكار المدمرة للصحة النفسية تكسبنا التعاسة والشعور بالقلق والشقاء، لحظات جيدة من الهدوء والصفاء الروحي يبعدنا عن الغم، ثمة مصدر داخلي آخر للسعادة يرتبط ارتباطا وثيقا بالشعور الداخلي، بالقناعة ألا وهو الإحساس بالقيمة الذاتية، لا تأتي السعادة إلا من عمل نبتغيه ونحبه، فن الحياة السعيدة يكبر معنا ونتعلمه من خلال تدريب العقل، ومن خلال البيئة السليمة التي يترعرع فيها الإنسان، البيئة السليمة التي تلقن الإنسان المحبة والعيش وفق المبدأ الأصيل للحياة الأخلاقية، البساطة والاعتدال والقناعة من مقومات السعادة، الرغبة في التخلص من الدوافع الغريزية والأفكار المسببة للقلق النفسي والإحباط المتزايد، لا بد من توفير القليل، وفي واقع الندرة أو الشح يتناقص الشعور بالسعادة أي لا بد من العمل على الزيادة قليلا أو كثيرا في مسببات السعادة، الصحة النفسية وسلامة الذهن، القليل من المال، الأصدقاء وحسن العشرة، وغيرها من المحددات الداخلية والخارجية.

 

درجة السعادة تزيد أو تنقص، يكون هناك تراتبية لممكنات السعادة، هذا الفعل ينكشف في الفلسفة الإسلامية مع ابن سينا والفارابي وابن مسكويه في دلالة السعادة وسبل تحصيلها، سعادة الإنسان وشقائه من خلال فتور الفرد في التفكير وقلة دهشته من الوجود، وعدم كفايته في مجال العلوم النظرية والعملية والعلوم الحكمية، قلة الوازع الديني والغلو وصعوبة الجمع بين مطالب الروح ومطالب الجسد، لعل الفلسفة تقودنا نحو الأمل في السعادة والشعور بامتلاك العالم من خلال حسن التدبر والتفكر في ملكوت الله، وحسن الإنصات للذات والوجود، قمة الكمال للنفوس العاقلة، قمة السعادة في الاعتدال والحكمة، توازن الفرد في الإقبال على اللذات بعقلانية، النفس تتمتع بالسعادة الكاملة، وهي مقيدة بأغلال البدن، ارتقاء النفس وتزكيتها بتحصيل المعرفة والزهد، والتفلسف يؤدي إلى نتائج حسنة.

 

الإنسان بعد أن يؤمن ضروريات حياته يصبو إلى السعادة القائمة، إلا أن البشر يتفاضلون في الاستماع بلذائذ الحياة، كما يتفاضلون بعقولهم ورواتبهم ومنازلهم\، قدرات الناس وطاقاتهم ليست متساوية ولا متكافئة، اللذات المحسوسة تعتبر عائقا في بلوغ السعادة والفارابي يشدد على ذلك، ويعتبر أن النفوس الأقل حكمة لا تصيبها السعادة لأنها أسيرة اللذات الحسية، أما بلوغ الكمال لن يتم إلا بالعلم والفلسفة. فالناس يطمحون للعيش في مدن فاضلة يسودها الاجتماع الفاضل، ينعم أهلها بالراحة والاستقرار النفسي، طريق السعادة جسر يستند في عموده الأساسي على الفلسفة، لا يجب على الإنسان تعطيل الملكات، العمل من أجل نيل السعادة، وتذوق حلاوة العيش دون التوجس المزمن من المصير، لا يجب أن يتأخر المرء عن التفلسف، رسائل الفيلسوف “أبيقور” مهمة في صلاحية الفلسفة كعلاج للنفوس، وقيمة اللذة الفعلية في تحصيل السعادة الحقيقية، لا يمكن العيش في سعادة دون العيش بحكمة ونزاهة وعدل، ولا العيش بحكمة ونزاهة دون العيش في سعادة.

 

الحكمة هي المبدأ وغاية الفعل الإنساني القائم على الإرادة واللذة لنيل السعادة، هواجس الإنسان من الموت والخوف من المصير، هواجس الإنسان من القلق والاضطراب الذي يصيب النفس والجسد معا، ترياق الحياة في اللذة لأنها البداية والنهاية للحياة السعيدة، فلا يجب التقليل من اللذة أو اعتبارها مرادفة للذة الماجنة، ليست كل لذة شرا في ذاتها. اللذة المفعمة بالحكمة لن تكون سوى اللذة التي تريح الإنسان من الألم والمعاناة، ما ينبغي اختياره بروية وعقل، وما ينبغي تجنبه والنفور منه، لا بد لكل مريد أن يفهم معنى الرغبات التي يدعو إليها الفيلسوف “أبيقور”، تلك الرغبات المفعمة بالحيوية والنشاط، الرغبات الطبيعية والضرورية وليست الرغبات التافهة، مهمة الفلسفة مساعدة الإنسان على تفسير نوبات التعاسة والقلق وكيفية التخلص منها، مشاعر سلبية ورغبات هدامة تنغص الحياة، ما يسبب القلق هو الخوف من الإله، لأن الموت مصير الكائن البشري، عليه اختيار نمط عيش مشترك، والتلذذ بملذات الحياة دون التفكير في المصير، الفلسفة هنا علاجية كما بين الفيلسوف الفرنسي بيير هادو في كتابه “الفلسفة طريقة حياة” الفلسفة عبارة عن تمرينات ذهنية، علاج للانفعالات المرضية، والأهواء المنفلتة، والمخاوف المسيطرة على الفعل والسلوك، التدريبات مهمة من أجل شفاء الروح، إقبال على اللذات النافعة مهمة في سلامة البدن من أي اعتلال. فالحكمة تعلمنا التمييز بين أصناف من اللذات النافعة واللذات الضارة.

احمد شحيمط

المصدر: شبكة النبأ