لم تحظَ مؤسسة دولية بإجماع وتباين، في آن واحد، في الأوساط الشعبية، كما حظيت به وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”. بالنسبة إلى كل اللاجئين الفلسطينيين، هي الشاهد الوحيد المتبقي على مأساة النكبة، فلقد تشكلت في عام 1949، وواكبت عمليات التهجير المنظمة، ووثقت أسماء النازحين ومدنهم الأصلية، وقدّمت الإغاثة والعون وسبل العيش كافة. غير أن قطاعاً آخر، هو الأكثر نخبوية، يجدها واحدة من أدوات المجتمع الدولي ذاته الذي دعم احتلال فلسطين، ويرى في دورها الوجه الآخر للاحتلال، والذي ساهم في تخدير الفلسطينيين إلى حين بناء حالةٍ جعلت من الاحتلال واقعاً. هؤلاء، عبّر عنهم الكاتب غسان كنفاني في روايته “ما تبقى لكم”.
وكيفما اتفق، فلا أحد في وسعه الزعم أن بقاء وكالة الغوث واستمرارية مشاريعها هما أمر ثمةَ بديل منه؟ هي، في فهم الشارع الفلسطيني عموماً، “الصديق اللدود”، لكن تلك النظرة شابها كثير من التطرف مع بداية الحرب، بحيث انسحبت الأونروا من مناطق شمالي وادي غزة كافة، أو تولّت مهماتها على نحو عشوائي، ليس من حقنا أن ندرجه في سياق التآمر، لضرورة الانصياع لأوامر الاحتلال وتفريغ الشمال من سكانه.
هكذا أصبح المشهد. الأمم المتحدة وموظفوها هم المسؤولون عن رعاية اللاجئين في الكوارث والحروب، يهربون بسياراتهم تاركين خلفهم المدارس والعيادات التي تحوّلت إلى مراكز إيواء يسكنها الآلاف، وأكثر من ذلك، مخازن الطحين والمواد التموينية التي تركت تُنهب من العابثين واللصوص، ومن خلفهم مئات الآلاف من الحائرين الذين تُركوا لمصيرهم، ولم يجدوا حينها سوى اللحاق بالأونروا حيث ذهبت.
في شمالي القطاع، يُجمع الأهالي على أنّ وكالة الغوث ساهمت في مخطط التهجير، ومارست، خلال الشهور الأربعة الأولى من الحرب، دوراً متخاذلاً تماهى تماماً مع الأهداف الإسرائيلية. وفي قلب هذا الإجماع، اجماعٌ آخر على أنّ استعادة دور الوكالة والمحافظة على بقائها، هما هدف وطنيّ سامٍ، ليس فقط بسبب دورها الإغاثي المنظّم والفاعل، إنما أيضاً لأنها مؤسسة دولية ارتبط تشكيلها بأكبر الأحداث السياسية التي شهدها العصر الحديث، فهي ليست منظمة إنسانية فحسب. يقول محمد حسين وهو موظف متقاعد من وكالة الغوث: “يجب ألا نغفل عن أن الوكالة، على الرغم أهميتها، فإنها مؤسسة منزوعة الإرادة السياسية. هي جسم تنفيذي يتبع المجتمع الدولي الذي يوفر الغطاء ل”إسرائيل”، وهي وجه هذا المجتمع الناعم. يدعمون تهجيرنا من بلادنا، ويوفرون لنا الطحين والخيام، لكن مع مرور الأعوام، ومع تعمد “إسرائيل” تقويض الوكالة وإنهاء خدماتها، كي تنهي من خلال ذلك الشاهد على الجريمة التاريخية، صرنا ندرك أن بقاء أونروا هو منجز وطني. باختصار، ظهرت في هذه الحرب محاولات “إسرائيل” هدمها”.
يتابع الرجل، الذي تجاوز الـ70 من العمر: “على رغم أنهم تركونا منذ بداية الحرب، فإن الأهالي جميعهم يدركون أنّ الدور الإغاثي الذي تقوم به الوكالة، لا يمكن لأحد تعويضه (..) لذلك، فإن العتب والشعور بالخذلان وكل التناقضات التي تحكم موقفنا من الوكالة، لا يمكن أن تلغي مطالبتنا بضرورة استعادة دورها”.
جدير بالذكر أن الاحتلال شنّ، مطلع العام الجاري، هجوماً على وكالة الغوث، إذ شدد وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، على أن “الأونروا” لن يكون لها دور في غزة بعد الحرب، وقال إن “الوكالة تطيل أمد قضية اللاجئين وتعرقل السلام وتخدم – كذراع مدنية – حماس”، وعلى خلفية الاتهام الإسرائيلي بضلوع عدد من موظفي الوكالة في عملية السابع من أكتوبر، أعلن عدد من الدول الغربية والأوروبية، وبينها الولايات المتحدة الأميركية وكندا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا، تعليق دعمها بصورة موقتة. وفي مقابل ذلك، استجابت رئاسة الوكالة سريعاً للاتهامات الإسرائيلية، وفصلت 12 موظفاً اتهموا بانتمائهم إلى حركة حماس ومشاركتهم في “طوفان الأقصى”.
ولعل ما يثير التناقض في الموقف الشعبي أكثر هو أنّ المؤسسة الدولية المتّهمة بسياساتها المريبة، كانت وجميع موظفيها خلال شهور الحرب، هدفاً مشروعاً للغارات الإسرائيلية، إذ دمرت الطائرات الحربية 70% من مدراسها، واغتالت أكثر من 200 من موظفيها.
خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، بدأت الوكالة العودة التدريجية لتمارس مهماتها في شمالي القطاع، فافتتحت عدداً من مؤسساتها الصحية، وبدأت إدخال المساعدات، وأوكلت إلى موظفيها مهمة توزيعها على النازحين، بينما يطمح الأهالي إلى توسيع خدماتها على نحو يطمئنون فيه إلى فشل الهدف الإسرائيلي في هدمها.
يوسف فارس