“القائد الوَحدوي”.. كيف عزز السيّد نصر الله تماسك مجتمع المقاومة في الضفّة؟

مضى السيد شهيداً، لكنه وإن مضى سيظل سيداً في إسناده وفي عزيمته ومؤازرته، وستشهد له فلسطين كلها بذلك، اليوم وحتى آخر يوم.

2024-10-09

 

يُحسب لسيد المقاومة حتى يومه الأخير احتضانه لمقاومة الشعب الفلسطيني مهما كان طيفها ولونها وانتماؤها، وحفاظه على علاقاته الوازنة مع جميع الأطراف يسارية أو علمانية أو إسلامية.

 

مساء يوم السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر الأسود تابع العالم العربي والإسلامي نبأ ضرب طائرات الاحتلال الضاحية الجنوبية في بيروت واستهدافها بالقنابل الثقيلة والكثير من القذائف المتفجرة.

 

وفيما سارع إعلام الاحتلال للإشارة إلى أن هدف الضربة هو رأس قيادة المقاومة الإسلامية في حزب الله السيد حسن نصر الله، الذي لطالما توعد وخطط لاغتياله، إلا أن الآمال بقيت منعقدةً على أن ينقشع دخان القذائف وحرائقها عما لا يريد الاحتلال وزمرته.

 

لكن الساعات اللاحقة حملت نبأ استشهاد السيد نصر الله، لا سيما مع انقطاع الاتصال به، وصعوبة الوصول إلى موقع الهجوم، ليمثل استشهاده مرحلةً فارقةً في الوعي المقاوم عربياً واسلامياً وفلسطينياً.

 

فالرجل الذي لطالما رُفعت صوره في شوارع وميادين المدن الفلسطينية، وهتفت الجماهير باسمه في النصر والحرب، وتعلقت العيون بخطاباته، لم يكن مجرد قائد لحزبٍ لبناني، ولا خطيبٍ مفوه، ولا معضلة عالقة للاحتلال وحلفاءه من العرب والغرب. بل كان وجوده محطة تاريخية بالنسبة للقضية الفلسطينية ستظل تُنسب له، متجاوزةً ظلال الحرب الأهلية والانقسام، وثقل الطائفية بين السُني والشيعي، والثقافية بين العلماني والإسلامي، والجغرافية بين اللبناني والفلسطيني.

 

والشاهد على هذا القول هو العلاقة المتينة التي وسمت المقاومة الفلسطينية، في الضفة الغربية وفلسطين المحتلة الـ 1948 مع حزب الله، بدءاً من مرج الزهور حيث كانت السنوات الأولى لقيادة السيد حسن نصر الله منصب الأمين العام لحزب الله، مروراً بانتفاضة الأقصى، وانتهاءً بإسناد المقاومة الفلسطينية على مدى عامٍ كاملٍ من الإبادة.

 

أولى الخطى: مرج الزهور

 

تعود جذور اللقاء الأول بين المقاومة الإسلامية في فلسطين والمقاومة الإسلامية في لبنان إلى إبعاد مرج الزهور، وذلك حين أقدمت قوات الاحتلال نهاية عام 1992 على إبعاد 419 فلسطينياً من أعلام حركتي حماس والجهاد إلى الجنوب اللبناني.

 

حينها كان التعامل الفلسطيني مع حزب الله محاطاً بالتوجس والريبة، لا سيما وأن الحزب المقاوم جاء انبثاقاً من حركة أمل الشيعية على العكس من المذهب السني السائد فلسطينياً، كما أن أثقال الحرب الأهلية اللبنانية وتوترات العلاقة مع حركة التحرير ودولة ياسر عرفات كانت لا تزال حاضرة.

 

لكن بضع ليالٍ على حصى مرج الزهور، وبوجود العشرات من الشبان الوافدين من البلدات الجنوبية مع المياه والطعام والأغطية كانت كفيلة لتبديد أي مخاوف، وتأسيس علاقة اجتماعية وسياسية وعسكرية وإنسانية تجاوزت حدود المكان والزمان، لتصبح السمة الأبرز لطوفان تحرير فلسطين، والنهاية المشرفة للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله.

 

فمع عودة المبعدين إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، كان حزب الله وبدعمٍ مباشر من أمينه العام وذراعه الأيمن الشهيد عماد مغنية قد تمكن من تزويد الفلسطينيين بخبرات تدريبية متقدمة، شملت دورات في وسائل الاتصال والتشفير والأمن في الميدان والأسلحة الخفيفة وإطلاق الصواريخ والتجسس ومكافحة التجسس وحرب الشوارع والقتال الجسدي وغيرها.

 

لتمثل تلك المرحلة نقلةً نوعية لكلا المقاومتين، فالمقاومة اللبنانية حصدت شركاء جدد في ميدان القتال، والمقاومة الفلسطينية اكتسبت خبرةً متراكمة، وكلاهما على تواصلٍ لا ينقطع ما دام الاحتلال باق.

 

وأمام الخبرة المتراكمة للحزب في مواجهة الاحتلال، مقابل حظ المبتدأ الذي لزم العمل العسكري الفلسطيني خلال سنوات الانتفاضة الأولى، قرر عدد من الشبان المبعدين البقاء في لبنان والحفاظ على خط تواصلٍ مع الحزب، ظهرت ثماره بعد عقدين من الزمان من خلال العمل الجهادي للشهيد عزام الأقرع “أبو عمار” من بلدة قبلان جنوب شرق نابلس. وهو أحد مبعدي مرج الزهور من الضفة الغربية، وأحد مؤسسي كتائب الشهيد عز الدين القسام في لبنان، والذي شارك الحزب في إسناده وإشغاله جبهة الشمال خلال الحرب الحالية، حتى استشهاده برفقة مسؤول حركة المقاومة في الضفة الغربية الشيخ صالح العاروري، والذي كان أيضاً على علاقة طيبة بالسيد نصر الله، ليشكلا معاً جبهة مقاومة من العمق والشمال في وجه الاحتلال.

 

بعد العودة من الإبعاد وعلى مدى السنوات الأخيرة لم يتوقف الحزب عن إسناد الفلسطينيين شعبياً وعسكرياً ولوجستياً، فكما خرجت تظاهرات النصر بالتحرير من لبنان خرجت من مدن الضفة الغربية، وبينما هتف اللبنانيون للسيد هتف الفلسطينيون فخراً وحباً له.

 

وفي جميع خطابات السيد الشهيد، كانت فلسطين والضفة الغربية حاضرةً كعمقٍ للمقاومة لا يمكن تحييده، وهو ما تجلى علناً من خلال دعوته الدول العربية إلى دعم الشعب الفلسطيني والمقاومة ومساعدتهم على البقاء في أرضهم، وإلى فك الحصار عنهم بالحد الأدنى، قائلاً: “لا تعطوهم سلاحاً ولكن اتركوهم يهربوا السلاح على الأقل”. وسراً من خلال العديد من خلايا المقاومة التي اجتازت حاجز الجغرافيا بين الضفة وفلسطين المحتلة 1948 ولبنان، وانطلقت في مقاومتها حتى قبيل انتفاضة الأقصى وبُعيد إجهاضها، قبل انتصار 2006 وبعده، قبل الطوفان وحتى آخر رمق، ليُسجل الشارع الفلسطيني للأمين العام الشهيد تمترسه خلف فلسطين قضيةً وشعباً ومقاومة.

 

فعلى مدى الأعوام 2000-2023، كشفت قوات الاحتلال عن أكثر من 17 مجموعة وخلية تجسس وقتال ودعم لوجستي أسسها الحزب في قلب فلسطين، من أبناء فلسطين، من دون أن يكشف الحزب عن واحدةً منها أو يشير لنفسه كمصدرٍ لإلهامها.

 

وهو ما اعتبره معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب ضربةً للنسيج الاجتماعي الذي يحاول الاحتلال غمس فلسطيني الـ 48 فيه بعيداً عن أصلهم العروبي والإسلامي، والتفافاً على سعيه لتقويض المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، حيث أشار المعهد إلى شبكات تجسس كبيرة تنشط في الوصول إلى المعلومات حول مرابض للدبابات ومواقع الكاميرات المثبتة على الشريط الحدودي، وبمعطيات عن تحركات الجيش شمال الكيان.

 

فيما شدد المعهد على أن أخطر ما يميز هذه الشبكات هو تنوع الخلفية لأفرادها، ما بين مسيحيين ومسلمين، واختلاف تياراتهم الحزبية من التجمع الوطني الديمقراطي، إلى الأحزاب الإسلامية، فالسلفية.

 

أما في الضفة الغربية فقد ساهمت شعبية الحزب وأمينه العام في سهولة وصوله إلى الفلسطينيين، بل وسعيهم للتواصل معه والحصول على دعمه، فيما اختلف ميدانهم من التجسس إلى العمل المقاوم، فمطلع 2016 كشف جيش الاحتلال عن خلية جندها جواد حسن نصر الله في منطقة طولكرم، حيث تنوعت أعمالها ما بين شراء السلاح والإعداد للعمليات الاستشهادية والحصول على الوسائل القتالية.

 

ونتيجةً لهذه الأدوار القوية أصبح الحزب خلال فترةٍ قصيرة بوصلة إجماعٍ فلسطيني واضح، بل إن الفلسطينيين استفادوا من ثورة التكنولوجيا ومواقع الاتصال الاجتماعي في تلقي التدريبات والمواد المصورة اللوجستية، وهو ما دفع الاحتلال لإنشاء وحدات خاصة تنتحل صفة الحزب لتشكيل خلايا وهمية في الضفة وفلسطين المحتلة لإيقاع الشباب الفلسطيني في قبضة الاعتقال.

 

الحاضنة الشعبية الرديفة في الضفة الغربية

 

المسافات الشاسعة بين الضفة الغربية ولبنان والحدود العربية والحواجز للكيان الصهيوني التي لطالما حالت بين أفواج المصطافين الفلسطينيين ذوي النعمة من دخول لبنان بكل أريحية والاستمتاع بتميزه البيئي، لم تمنع على مدى أكثر من ثلاثة عقود المقاومين الفلسطينيين من تجاوز المستحيل للوصول إلى الضاحية الجنوبية.

 

هُناك حيث لقيتهم المقاومة الإسلامية في لبنان دائماً بالترحاب والقبول السريع للمساعدة، بل والمبادرة بالمال والسلاح والخبرة لهم ولغيرهم من المقاومين بغض النظر عن فصيلهم وانتمائهم ومرجعيتهم، يكفي أن تظل جذوة المقاومة حاضرة متقدة في الضفة الغربية.

 

يتحدث المقاوم الثائر جاسر البرغوثي الذي قاد عدداً من مجموعات المقاومة في منطقة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية إبان انتفاضة الأقصى، عن خط الإعداد الذي فُتح بين حزب الله والمقاومة الفلسطينية، والذي تمكنت المقاومة عبره من تمويل العشرات من العمليات المسلحة ومهام الدعم اللوجستي.

 

يوضح البرغوثي في بودكاست “سما القدس”، أن المقاومة الفلسطينية وجدت مرادها عند الحزب، فأرسلت مقاتليها للتدريب في صفوف الحزب، وحصلت على التمويل بعشرات آلاف الدولارات، وتغطية تكاليف العمليات وديمومتها لسنوات، لا سيما وأن خبرة الحزب في التدريب والقتال متقدمة ومتفوقة.

 

أضاف البرغوثي وحدة الهدف والرؤية بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، ما يحول الحزب لسندٍ وإسناد أساسي للمقاومة الفلسطينية داخل الضفة، فإن ضُربت مقاومة “حماس” كانت مقاومة الحزب لا تزال ثابتة وراسخة وموجودة.

 

ومن هذا المنطلق يعتبر أن الربط بين المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وحزب الله، كان سعياً للتفكير خارج الصندوق والاستفادة من خبرته ورؤيته للعمل المقاوم.

 

ثم يعبر البرغوثي عن مفاجأة أفراد المقاومة الفلسطينية في الضفة من ترحاب الحزب وقيادته بإسناد وتفعيل العمل المقاوم في فلسطين، مستشهداً على قوله بأن حزب الله منح مجموعة المقاومين مبالغ إضافية من المال لإسناد أي جهة مقاومة، مهما كانت مرجعيتها وانتماؤها، ما دامت مستعدة للمقاومة ومقارعة الاحتلال.

 

كما أكدت قيادة الحزب استعدادها الدائم لتدريب المقاومين في صفوفها، مع ما يشمله من تصنيع وأموال وتجهيز ساحات العمل، ما اعتبر إضافة نوعية للعمل المقاوم في الضفة الغربية.

 

يردف البرغوثي قوله: “دعم حزب الله كان علامة فارقة في العمل المقاوم، لا سيما وأن قيادته كانت مهتمة بتطوير العمل العسكري داخل فلسطين بأي طريقة من الطرق، وعبر أي مجموعة أو فصيل، وبأي مبالغ أو مقدرات، طالما أن ذلك يخدم رؤية المقاومة الموحدة بين حزب الله والمقاومة الفلسطينية، فكلاهما يرى الاحتلال خطراً على الجميع الفلسطيني واللبناني، حماس وحزب الله وغيرهما، لذا لا بد من استمرار المقاومة”.

 

يلفت البرغوثي النظر إلى أن الدعم الكبير وسهولة التقبل، والإسناد اللوجستي المتواصل من قبل حزب الله للمقاومة الفلسطينية لم يكن يوماً مشروطاً، ولم يسع الحزب أبداً لنسب الفضل له، أو التحكم في العمل العسكري وخطوطه، بل كان داعمًا للمقاومة بلا قيد أو شرط أو إملاءات.

 

وإن كان المجال قد أتيح لجاسر البرغوثي أن يتحدث عن دور حزب الله في استنهاض المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، فإن رد الفعل على استشهاد سيد المقاومة الإسلامية اللبنانية قد وشى بالكثير من ملامح هذا الدور وعظم أثره.

 

فالرجل ساند المقاومة لعقود من دون أن يكلف نفسه الإشارة إلى ذلك أو الترويج لإنجازاته وصنيع فضله، كما لم يمنعه مذهبه ولا دينه ولا مرجعيته من أن يتسع دعمه للجميع، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، معززاً لنفٍس قتالي فشلت الأحزاب الفلسطينية في تأسيسه.

 

كما تجاوز بعمق رؤيته جميع الخلافات التي فرقت الفلسطينيين أنفسهم، فلم يعبأ بفتح ولا حماس ولا الجبهة الشعبية ولا الجهاد ولا الجبهة الديمقراطية، بل استقبل الجميع، ودعم الجميع، وساندهم، حتى على المستوى العائلي والمعونة الاجتماعية.

 

وهو ربما ما يفسر ارتفاع شعبيته في الأوساط الفلسطينية التي قُدرت ما بين الأعوام 2014-2022 بأكثر من 55% بين المواطنين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية، لتتجاوز شعبيته كثيراً من الأحزاب والفصائل الفلسطينية.

 

“يمكنكم في الشدائد أن تراهنوا علينا وكفى”

 

في كثيرٍ من المحطات توجه الشهيد السيد حسن نصر الله إلى الجمهور الفلسطيني بخطاباته، معززاً لصمودهم، ومقيّماً لتضحياتهم، ومسنداً لهم، ومؤكداً أخوته لمقاومتهم.

 

أما آخر المحطات فهي حين توجه الجمهور الفلسطيني نحو الأمين العام الشهيد بمشاعر الفقد والوفاء، متجاوزين التشظي السياسي الشديد والانقسام الواضح بين صفوفهم، لتخرج جميع الفصائل من دون استثناء للتعبير عن ألمها لفقدان فقدانها السيد حسن نصر الله، من دون أن تكبحها قيود الانتماء الحزبي، أو تؤثر فيها تبعات الانقسام الفلسطيني الحاد.

 

يُحسب لسيد المقاومة حتى يومه الأخير احتضانه لمقاومة الشعب الفلسطيني مهما كان طيفها ولونها وانتماؤها، وحفاظه على علاقاته الوازنة مع جميع الأطراف يسارية أو علمانية أو إسلامية، وفتح بابه لجميع الفصائل للتدريب والتسليح والإعداد، وعلى مقارعته الاحتلال حتى الرمق الأخير.

 

يُحسب له تاريخٌ من الكلمات والأفعال، ومن اللحظات التي وسمت انتصار المقاومة ما بين لبنان وفلسطين، ومن الكلمات الشجاعة للشعوب والكلمات، ومن الكثير من التحدي للغطرسة الصهيونية والأميركية والانبطاح العربي المقيت.

 

مضى السيد شهيداً، لكنه وإن مضى سيظل سيداً في إسناده وفي عزيمته ومؤازرته، وستشهد له فلسطين كلها بذلك، اليوم وحتى آخر يوم.

سجود عوايص

المصدر: الميادين

الاخبار ذات الصلة