بعد مرور أكثر من عام على طوفان الأقصى

الكيان الصهيوني يعود إلى النهج السياسي-الأمني في آسيا الوسطى

طوفان الأقصى وتداعياتها الدولية اللاحقة أثارت أول موجة من الدعم لفلسطين ومعاداة للكيان الصهيوني على مختلف المستويات والطبقات في مجتمع آسيا الوسطى

2024-10-09

شهدت العلاقات بين الكيان الصهيوني وآسيا الوسطى تقلبات كثيرة خلال السنوات الأخيرة. فبعد تبني الكيان استراتيجية عملية لتطوير العلاقات مع دول آسيا الوسطى، شهدنا تراجعًا نسبيًا وجديًا في هذه العلاقات نظرًا لتداعيات عملية طوفان الأقصى. فمنذ بداية هذه العملية وجرائم الكيان الصهيوني ضد أهل غزة، تأججت المشاعر العامة في آسيا الوسطى على نطاق واسع. وعلى الرغم من عدم وجود علاقات من بعض الدول الإسلامية، وحياد حكومات المنطقة أو حتى انحيازها النسبي للكيان الصهيوني، إلا أن هناك ردود فعل ملحوظة في هذه المنطقة ضد مصالح الكيان الصهيوني.

 

تراوحت هذه الردود بين الاحتجاجات الميدانية التي واجهتها الحكومات، وحملات المقاطعة ضد الكيان الصهيوني على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى أعمال تخريبية ضد الشركات المرتبطة بالكيان الصهيوني. أدت هذه الردود إلى ركود خطير في العلاقات بين دول آسيا الوسطى والكيان الصهيوني، وزيادة مخاطر تطوير العلاقات للطرفين. والآن، بعد مرور أكثر من عام على طوفان الأقصى، يبدو أن الكيان الصهيوني لجأ إلى نموذج سلوكي جديد بناءً على الظروف الإقليمية الجديدة.

 

اجراءات جديدة

 

من أهم الإجراءات السلوكية للكيان الصهيوني في آسيا الوسطى بدء عملية تغيير الكادر “الدبلوماسي”، وفي الوقت نفسه تغيير نهج تعيين الدبلوماسيين الجدد في آسيا الوسطى. في هذا الإطار، تم تعيين “جدعون لوستيغ” سفيرًا جديدًا للكيان الصهيوني في أوزبكستان وسفيرًا غير مقيم في طاجيكستان. حل محل “زهافيت بن هيلل” في هذا المنصب، وهو ما يعد أول علامة على تغيير نهج الكيان. على عكس بن هيلل، وهو أحد الدبلوماسيين البارزين في الكيان الصهيوني بخبرات مرتبطة عمومًا بالدبلوماسية العامة وخبرات أوروبية، فإن لوستيغ لديه خلفية سياسية وأمنية مرتبطة بالولايات المتحدة وآسيا الوسطى. ومن المثير للاهتمام أن قنصل الكيان في سان فرانسيسكو خلال هذه الفترة كان “إسماعيل خالدي” الذي عُين لاحقًا سفيرًا جديدًا للكيان الصهيوني في تركمانستان، ويمكن أن يؤدي ارتباط وتعارف هذين الشخصين في آسيا الوسطى إلى مزيد من التنسيق. خدم السفير الجديد للكيان الصهيوني في طشقند لسنوات في جيش الكيان الصهيوني وهو أحد الدبلوماسيين النشطين في المجال العسكري والأمني. لديه أيضًا خبرات وتجارب واسعة في مجالات أمنية أخرى مثل قسم الأمن الإقليمي في وزارة خارجية الكيان الصهيوني وكذلك الأقسام المتعلقة بمكافحة “الإرهاب”. بعد فترة وجيزة من تعيينه في هذا المنصب، زار لوستيغ مؤتمر يهود بخارى، وصحبه “هيلل نيومان”، السفير السابق للكيان الصهيوني في أوزبكستان وقنصل الكيان في لوس أنجلوس. كما عقد اجتماعًا مشتركًا في “أشرا” مع مديري هذه الشركة، واجتمع مع “يعقوبوف”، العالم الأوزبكي في معهد هولون للتكنولوجيا.

 

إجراء آخر اتخذه الكيان الصهيوني باستمرار هو التفاعل في مجال جذب العمال المهاجرين. بعد عملية طوفان الأقصى، تسارعت وتيرة الهجرة من الكيان بشكل كبير، وانخفضت رغبة العمال الأجانب من الدول الآسيوية في العمل في الأراضي المحتلة. دفع هذا الوضع الكيان إلى وضع سياسات عاجلة في مجال القوى العاملة. في هذا الإطار، سمحت سلطات الكيان الصهيوني للشركات الخاصة بتوظيف عمال مهرة وشبه مهرة بشكل مباشر من 10 دول بما فيها أوزبكستان.

 

في المجال التجاري، على الرغم من الضرر الجسيم الذي لحق بالعلاقات بين الكيان الصهيوني ودول آسيا الوسطى، إلا أن الكيان حاول تعويض هذا الضرر من خلال التركيز على النهج السلوكي لدول المنطقة عبر الحصول على امتيازات إضافية.

 

في الوقت نفسه، كان المجال السيبراني من بين المجالات الأخرى التي يهتم بها الكيان الصهيوني في آسيا الوسطى، والذي تم متابعته بصمت واعتبارات أمنية أكبر نظرًا لحساسيته. على هذا الأساس، يمكن الاهتمام بنموذج سلوك شركة “إينوكام”، وهي إحدى الشركات النشطة والبارزة في مجال الأمن السيبراني في الكيان الصهيوني. تمكنت هذه الشركة من توقيع عقد لتوسيع أنشطتها في آسيا الوسطى من خلال إبرام اتفاقية مع شركة “سيتريكس” الأمريكية. وبالتالي، من المتوقع أنه مع الحضور الرسمي وتوقيع العقد مع الشركة الأمريكية، ستتواجد الشركة المرتبطة بالكيان الصهيوني فعليًا في المنطقة، وبالتالي تقل الحساسية تجاه حضور الكيان الصهيوني.

 

 الاستراتيجيات السلوكية الجديدة و مخاطرها

 

فرضت عملية طوفان الأقصى تحولات جوهرية على تحليل سلوك الكيان الصهيوني في آسيا الوسطى. ففي حين كان الكيان يواجه حالة من الارتباك وعدم اليقين بشأن الوضع في غزة في الأشهر الأولى من هذه التحولات، وبالتالي لم يكن لديه استراتيجية محددة تجاه آسيا الوسطى، يبدو أنه مع ظهور ردود الفعل في المنطقة، وتثبيت سلوك دول آسيا الوسطى، فإن مسؤولي الكيان الصهيوني يتبنون نموذجًا سلوكيًا جديدًا تجاه آسيا الوسطى. يمكن تقييم أهم خصائص هذا النموذج السلوكي على النحو التالي:

 

  1.  في حين أن الكيان حاول في الجولة السابقة من تعيين السفراء والكوادر الدبلوماسية تقليل الحساسية في التفاعلات مع دول آسيا الوسطى، وبدء عملية تطوير العلاقات ومستوى أعلى من التطبيع، أو بعبارة أخرى بناء التحالفات على غرار نموذج جمهورية أذربيجان، يبدو أننا نشهد في الظروف الجديدة عودة إلى النهج السياسي-الأمني السابق. لذلك، بعد التركيز على الدبلوماسية العامة وبناء الصورة، عاد الكيان إلى تعزيز التفاعلات الأمنية في المناهج التقليدية. يمكن لهذا الأمر من ناحية أن يؤدي هذا الأمر إلى تفاقم حساسية حكومات آسيا الوسطى، ومن ناحية أخرى، يمكن أن يعزز الإجراءات العملية والميدانية للكيان الصهيوني في آسيا الوسطى. في ظل وضع أشخاص ذوي خلفيات سياسية وأمنية على رأس الكوادر الدبلوماسية، يجب توقع حضور قوى أكثر تطرفًا وعملية في المجال الأمني على المستويات المتوسطة، وتتم هذه العملية تدريجيًا بعد تعيين السفراء.
  2.  إن استراتيجية الكيان الصهيوني تجاه دول آسيا الوسطى لجذب القوى العاملة عبر الشركات الخاصة المستقلة، وإن بدت وكأنها تلبي ضرورة اقتصادية، إلا أنها قد تنطوي على استراتيجيات أمنية أكثر جدية. والواقع أن أوزبكستان على وجه الخصوص هي دولة مسلمة، وقد شكل توظيف العمال المسلمين دائمًا خطرًا كبيرًا على الكيان الصهيوني وواجه مقاومة. في الوقت نفسه، تعد أوزبكستان من المناطق التي شهدت أكبر قدر من التحركات ضد الكيان الصهيوني، وبالتالي أُدرجت في قائمة المناطق البرتقالية (عالية الخطورة) لسكان الأراضي المحتلة. في ظل هذه الظروف، يعتبر اختيار أوزبكستان خيارًا محفوفًا بالمخاطر من الناحية الأمنية.
  3.  يتبنى الكيان الصهيوني استراتيجية سلوكية مزدوجة تجاه دول آسيا الوسطى على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. ففي حين يشير النهج الأول إلى علمانية دول آسيا الوسطى، وابتعادها عن المجتمعات والقضايا الإسلامية، وعدم اكتراثها بقضية الكيان الصهيوني وفلسطين وما شابه ذلك، فإنه على المستوى الأمني يدرك بوضوح إمكانات هذه المنطقة، خاصة في الأوساط التقليدية والريفية، لتشكيل نواة جديدة للمقاومة. والحقيقة أن عملية طوفان الأقصى وتداعياتها الدولية اللاحقة أثارت أول موجة من الدعم لفلسطين ومعاداة للكيان الصهيوني على مختلف المستويات والطبقات في مجتمع آسيا الوسطى. لم يكن هناك مثل هذا الاتجاه الموحد والمتنامي في آسيا الوسطى من قبل. هذا التحريض نشّط أسس تشكيل فكرة المقاومة في المنطقة، الكيان خائف للغاية من هذا الأمر، لأن الأهداف المشروعة والمثالية للمقاومة ستكون قادرة على جذب آسيا الوسطى بعشرات المرات أكثر من الخطابات المرتبطة بالتيارات السلفية والمتطرفة.

من هذا المنظور، ستكون إحدى الأولويات التشغيلية والاستخباراتية للنظام في آسيا الوسطى في الظروف الجديدة هي التركيز على جمع المعلومات في المنطقة بالتعاون مع حكومات آسيا الوسطى لمنع تشكيل نواة جديدة للمقاومة في آسيا الوسطى.

 

  1. قد يتجه الكيان الصهيوني خلال الأشهر القادمة، وخاصة بعد الهزيمة المحتملة لائتلاف اليمين بقيادة الليكود ونتنياهو، نحو جذب خيارات وسطية ومعتدلة، والتي ستكون من أهمها فصائل اليهود البخاريين المقيمين في الأراضي المحتلة. من أبرز تيارات اليهود البخاريين حزب “الأمل الجديد” الذي يقوده “جدعون ساعر”. إن الوجود والنشاط السابق لـ”ساعر” في حزب “الوحدة الوطنية” المرتبط بالعسكريين السابقين في “جيش” الكيان الصهيوني أدى مؤخرًا إلى ظهور أخبار عن عرض وزارة الحرب عليه من قبل نتنياهو، والتي نفاها لاحقًا. ومع ذلك، فإن نمو حضور ونفوذ اليهود البخاريين في الكيان الصهيوني أمر لا مفر منه، ويمكن أن يكون هذا الأمر حافزًا لتحفيز علاقات الكيان مع آسيا الوسطى وروسيا.
المصدر: الوفاق