فشل استراتيجية الاغتيالات
انقسم المحللون والخبراء إزاء هذه الاستراتيجية؛ فمنهم من يرى جدواها في إيقاف اندفاع حركات المقاومة، ويؤخرها إلى أجيال قادمة كي تحظى بقيادة جديدة تحقق لها الإنجازات. أهم روّاد هذا الرأي بعض المحللين “الإسرائيليين” والأميركيين والعرب المطبّعين. إذ إثر عمليتي اغتيال إسماعيل هنية رئيس المجلس السياسي لحركة حماس والقائد الجهادي لحزب الله السيد فؤاد شكر، وقبلهما اغتيال القائد صالح العاروري، رأوا أنها كانت ضرورية لإستعادة قدرة “إسرائيل” على الردع والثقة بالنفس، والتي تراجعت بشدة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” المفاجئة وغير المسبوقة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
لكن هذا الرأي أثبت عدم صوابيته مع جماعات المقاومة ذات العقيدة الدينية الملتزمة. إذ عند تحليل نهج الاغتيالات “الإسرائيلية” نجد نتائجها في إحداث معايير تكتيكية، وغالبًا ما يكون لها آثار إستراتيجية سلبية على الاحتلال. وذلك؛ لأن عقدة “إسرائيل”، في تعاملها مع الحركات العقدية والأيديولوجية المتماسكة، هي أن الاغتيال السياسي لم ينجح في صناعة الفارق الاستراتيجي الذي أحدثته مع غيرها من الحركات عبر الاغتيالات. إذ بالرغم من كثافة الاغتيالات عدديًا للصف الأول من قادة حماس من المؤسس الشيخ أحمد ياسين إلى رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في إيران ونائبه صالح العاروري في لبنان، وقبلهما سلسلة طويلة من الصف الأول، لم يحدث تحولات منهجية في الحركة، فكان تأثير الاغتيالات عليها إجراءً عملياتيًا محدودًا يرتبط بإعادة ترتيب أوراق تنظيمية لا أكثر، لا انقلاب داخليًا أو تغير جذريًا في المسارات، بل إنّ اغتيال “هنية” رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أعقبه انتخاب، وبالإجماع، يحيى السنوار، بما معناه أنَّه لا يوجد في الحركة إلا مدرسة واحدة، وهي المواجهة المسلحة المقاومة.
إزاء هذا الواقع؛ لا يضحي للاغتيال قيمة من الناحية الإستراتيجية، وتصريح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بأن: “استهداف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله من شأنه أن يغير شكل الشرق الأوسط” استنتاج غير واقعي ومقارنة في غير مكانها الصحيح، وما هو إلا حدث موضعي غايته آنية. إذ كما يرى المحلل العسكري ألون بن ديفيد المقرّب من قيادة جيش الاحتلال أنَّ “سياسة الاغتيال تقود إلى نتائج عكسية، فتعمل على “توسيع دائرة العنف”، ولن تقضي على من وصفهم بالإرهابيين الذين يستبدلون بآخرين أشد عزيمة وحماسة في مواجهة “إسرائيل” و”ربما تصبح أكثر قوة وتنظيمًا”. وأفضل مثال يضربه بن ديفيد على ذلك هو حزب الله، معلقًا: “عند اغتيال عباس موسوي، أمين عام حزب الله السابق، وتولي نصر الله، تحول الحزب من جماعة صغيرة إلى جيش منظم”. يشير أيضًا رونين بيرغمان، الصحفي “الإسرائيلي”، في كتابه الموسوعي “قم واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة” (Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations) إلى أنَّ “سياسة الاغتيالات نجحت في إزالة تهديدات مباشرة محددة، لكنها فشلت في توليد حل طويل الأمد لمعضلة الأمن الإسرائيلي”.
إذ إن اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي(قده) لم يقضِ على قيادة صنع القرار، إنما استقدم قائدًا شابًا- آنذاك- هو السيد حسن نصر الله، والذي حوّل الحزب إلى الرقم الأول المؤثر في المشهد اللبناني ثم في المحيط الإقليمي لاحقًا. في هذا يقول الخبير الاستخباراتي في صحيفة “هآرتس” “الإسرائيلية” اليسارية إن استشهاد السيد نصرالله لن “يغيّر قواعد اللعبة”؛ ويضيف: “سيواصل حزب الله، بالرغم من الضربات الكبيرة التي تعرّض لها، استهداف شمال “إسرائيل”.. وطالما القصف متواصل، لن يعود الأشخاص الذين أجلوا”. وفي مقال رأي منفصل في صحيفة “هآرتس”، كتب ميلمان وهو مؤرخ ومحلل عسكري، أن العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة ولبنان تشير إلى أن سياسة الاغتيالات “أصبحت غاية في حد ذاتها”.
في الختام؛ لقد أدى اغتيال السيد عباس الموسوي (قده) إلى تأسيس أول مشروع حقيقي للمقاومة، مفهومًا وثقافة وممارسة، في الجزء العربي من منطقة غرب آسيا(الشرق الأوسط) منذ استعمار فلسطين مع استلام سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله قيادة حزب الله، والذي يثبت في كل حقبة تميز تجربته عن غيرها والتأييد الواسع لها من خارج البيئات اللبنانية والعربية والإسلامية. وما نشاهده ونسمعه من أصوات تنده بها حناجر تدعو لضرب “تل أبيب” إلا صدى لشعبية ثقافة المقاومة وأدائها..وبشهادة سماحته – رضوان الله عليه- سيكون نجاحها المدهش في إعادة إنتاج ممنهج لثورات عربية ستسخّر في المعركة الكبرى لتحرير فلسطين في مواجهة التحديات الجمة التي تضعها في طريقها أكبر قوى الإمبريالية الحالية.
كما أن الدليل الساطع على استمرار توهج تجربة حزب الله، بعد استشهاد أمينه العام الثاني، الانبهار الذي يعبر عنه كثيرون في العالم الذين يواكبون الحرب على لبنان، فهم يرون أنه بعد الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة، سواء في بنيتها بضربات الأجهزة اللاسلكية وأجهزة المناداة ولاحقًا باغتيال القيادات العسكرية والأمنية وصولًا لاغتيال الرمز والقائد وحملات القصف المدمّر في الجنوب والضاحية والبقاع وموجات النزوح التي طالت بيئة المقاومة، ما ينجزه شباب المقاومة من ثبات واقتدار ونجاحات في الجبهة خارق للطبيعة وأقرب للمعجزة، ولم يسبق لهم أن رأوا مثله في حروب أخرى وفي ظروف أقل صعوبة.
زينب الطحان