“هذه المعركة كبيرة وطويلة مع هذا الكيان، ولكن أفقها ونهايتها واضحة يراها المجاهدون والمؤمنون والصابرون والمحتسبون والجرحى، ويشهد عليها اليوم الشهداء من عليائهم” – السيد الشهيد حسن نصر الله.
أشدّ ما يربط صدور الناس الحرّى بالمجاهدين في لبنان اليوم هي الوصيّة. كأنّها نزلت فردية على كل واحد منهم، لا وصايا للأمّة وحسب. هي علاقة توصف بالعاميّة بـ”الرَّوحنة” بين الناس ورجال المقاومة، بعد ارتقاء السيد الشهيد حسن نصر الله. فلكلّ طرف منهما “تِركة من السيّد”، الذي لطالما أوصى المقاومة بالناس وأوصى الناس بحفظ المقاومة.
ليس جديداً على جمهور المقاومة حرصهم على حفظ مسيرة الجهاد، بالاحتضان والمشاركة، منذ زمن السيّد موسى الصدر والسيّد عباس الموسوي والشيخ راغب حرب وصولاً إلى السيد حسن نصر الله. لم تعزز هذه القيادات والرموز وحدها مسؤولية الناس تجاه بلادهم وأرضهم وقضيتهم الأساس فلسطين، بل كانت مسؤولية متبادلة، لأنّ المقاومة في الأساس هي منهم، خرجت من أرحامهم وبيوتهم وأحيائهم، وبذلوا في طريقها مُهجاً ورجالَ أشدّاء.
تصنع غربة الرجال في ميدانهم، المشتركة بغربة الناس عن بيوتهم، بعد اندلاع الحرب وارتقاء السيّد نصر الله، استئناساً خاصاً بعضهما ببعض، بعدما كانت رسائل المجاهدين تُوجّه إلى السيد نصر الله مباشرة ثم يردّ عليها، بلغة وجد مشتركة لها وقع معنوي بالغٌ في مشهد الجهاد الكبير وفي قلوب الناس. عاد المقاومون اليوم إلى الناس بشكل مباشر، ليشحذوا همم المعركة من قرار الناس التمسك بشرر السلاح، وما تستمدّه عزائمهم من بطولات الميدان. وهو ما أقسم من أجله المقاومون في الرسالة الأولى بعد ارتقاء السيد نصر الله، والتي تقول: “إلى شعبنا الصابر الأبي والوفي نقول، قسماً بآهات المعذبين وبالأشلاء الممزقة، لن يسلم القاتل من بأسنا وثأرنا، ولن ينال من عزمنا، ولن تسقط الراية من يدنا، وهذا عهدنا ووعدنا والقسم، ولما كنتَ تعدنا بالنصر دائماً، نعدك بالنصر مجدداً”.
وما انسحب أيضاً على بيان غرفة العمليات الأخير، الذي تضمن في نهايته رسالة إلى من أسموهم “الأهل”، تحمل همّاً شخصياً في الطمأنة والتعويض عن غياب القائد الذي تصدّى في حياته كلّها لمخاطبة “أشرف وأكرم الناس”: “نقول لأهلنا الشرفاء، أنتم في وجدان كل مجاهد منّا، أنتم بأسنا الشديد الذي يذل هذا العدو، أنتم صرخات التكبير في الميدان وأنتم دعاء النصر الذي نتقرب به من الله، يا أهلنا أنتم سرّ صمودنا وعزتنا وكل الانتصارات، نعلم أنكم أهل الصبر والتضحية والوفاء، منكم نستمدّ كل عزمنا وبأسنا، وبدعائكم نشحذ الهمم ونقاتل بشموخ”.
“هذا الطريق سنكمله”
تعلم المقاومة وقياداتها ممن ارتقوا أو لا يزالون على رأس عملهم، أن تمسّك كل فرد فيها بالسلاح كالقابض على الجمر في يديه. في وقت تعمل استخبارات العالم، مُجنّدةً بتكنولوجيا مُتقدّمة، على محاربة هذه المقاومة، وما تفجير أجهزة البيجر واللاسلكي إلا دليل على ذلك. هذا التضييق الكبير على خيارات من يرفعون لاءاتهم عالياً، في وجه رؤوس التوحش العالمي، لم يفعل سوى انصهار النار بالأفئدة، فالتفّ الناس بشكل أقوى حول المقاومة، وأعلنوا عن ذلك بعاطفة عميقة، حين أبدوا استعدادهم لوهب أعضائهم لمن يحتاجها من جرحى تفجيرات البيجر واللاسلكي، أو تقديم منازلهم للمقاومين، أو احتساب دمارها فداء لهم.
وعلى الرغم مما يتكبّده أهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، على مدى عامل كامل منذ بداية معركة “طوفان الأقصى”، من مجازر بحق المدنيين واعتداءات إسرائيلية مباشرة ومستمرة على منازلهم وأرزاقهم ثمناً لموقفهم الداعم لفلسطين، إلا أنهم لم يتوانوا عن تجديد عهد وصيّة السيد نصر الله الأساس، حين قال: “هذا الطريق سنُكمله، لو قُتلنا جميعاً، لو استُشهدنا جميعاً، لو دُمّرت بيوتنا على رؤوسنا، لن نتخلى أبداً عن خيار المقاومة الإسلامية”.
هذه الوصايا التي شدد عليها السيد نصر الله، خصوصاً في خطاباته الأخيرة، يرددها الناس اليوم مثلما يُردَّد الوِرد، وهي ما يُعوّلون على نتائجها في الميدان. هي نفسها ما يُشعل صدور الرجال في ساحات الحرب، مرّة للقتال ومرّات للثأر. فيظهر الغضب المتشظّي في كلامهم، وفي شعورهم بالكدر لتأجيل مشاعرهم، وترك دمعهم يعبر على مهل كأنه في نزهة في نهر ربيعي، وليس دمعاً حرّاقاً. فكل مراسم العزاء مؤجلة حتى تنتهي الحرب. هذا الفراغ في مقاعد المأتم الجماعي يعزّ على محبّي السيّد الشهيد، ولا يهدّئ من روعهم في هذه الأيام سوى صنيع المقاومة، ولا يُشعل المقاومة سوى صبر الناس حتى آخر طلقة، لينفجر هذا الحزن الكبير في سماء تزغرد للنصر.
غفران مصطفى