المقاومة نحو معادلة "حيفا مقابل الضاحية"

واشنطن تستعجل اليوم التالي “سياسيا” قبل الهزيمة الإسرائيلية

بعد تجاوز عوارض الضربات "الإسرائيلية" بينت الوقائع الميدانية أن المقاومة الإسلامية في لبنان باتت الآن في وضعية تثبيت معادلة "حيفا مقابل الضاحية الجنوبية لبيروت"، بعدما أطلقت هذه المعادلة رسميًا" يوم الثلاثاء الماضي، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بالتزامن مع الإطلالة الثانية لنائب الأمين العام لحزب الله المجاهد سماحة الشيخ نعيم قاسم، واستهلتها بدفعة أولى من مئة وخمسة صواريخ تساقطت على أهداف في حيفا ومنطقة الكريوت في أقل من نصف ساعة.

2024-10-13

هذا الأمر فهمه “الإسرائيلي” بأنه توافر قدرة نارية تسمح لحزب الله بالانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة وإدارة الحرب. وبحسب تقارير لوسائل إعلام تتلقى توجيهاتها من الأميركيين (سكاي نيوز عربية)؛ واشنطن تريد تثبيت معادلة “حيفا مقابل بيروت”، وليس مقابل الضاحية؛ حيث تبقى يد “إسرائيل” طليقة بضوء أخضر أميركي لإنجاز المهمة المحددة من هذه الحرب، وهي القضاء على حزب الله وإعادة بناء النظام السياسي في بيروت. وهذه هي الأهداف المحلية في المرحلة الأولى؛ حيث تبقى العاصمة اللبنانية مهيئة للسلطة الجديدة بعيدًا” عن مخاطر الدمار. أما حزب الله؛ فهو يعمل على تثبيت معادلة “تل أبيب مقابل بيروت”، وربما الانتقال إلى معادلات أكثر قسوة على العدو بعدما استعاد الحزب عافيته كاملة.

 

وفقًا للمجاهدين، ليل أمس الجمعة، ضربوا منطقة هرتسيليا في “تل أبيب” بمسيّرتين؛ واحدة أصابت هدفًا أدى إلى قطع الكهرباء عنها، والثانية أسقطت. وأدى صاروخ اعتراضي “إسرائيلي” إلى اضرار في مبنى أصابه. هذه العملية، والتي لم يصدر بيان حتى الآن من المقاومة الإسلامية عنها، يبدو أنها جاءت ردًا على العدوان “الإسرائيلي”، ليل الخميس الماضي، على منطقتي الباشورة والبسطة التحتا في العاصمة بيروت، وأدت إلى ارتقاء عدد كبير من الشهداء والجرحى المدنيين. ويبدو أن أهمية هذه العملية، في التحليل الأولي، تكمن في المسافة التي قطعتها الطائرة من دون طيار إلى “هرتسيليا” والمقدرة بنحو 100 كلم، وهي نوع جديد من الطائرات المسيّرة لم تُكتشف إلا فوق “تل أبيب”. وبحسب بعض التقارير الإعلامية “الإسرائيلية”؛ التقدير الأولي لانطلاق المسيّرتين لم يكن من لبنان؛ بل من العراق أو اليمن، قبل أن يحسم “الإسرائيليون” أن وجهتهما كانتا من لبنان.

 

يبدو أن العدو “الإسرائيلي” وقع في مشكلة جوهرية، وهي أنه عندما تسرّع في تقييم نتائج عملياته النوعية ضد البنية القيادية للحزب ومخازن سلاحه- كما ورد في إحاطاته اليومية ذات الصلة- توثّب إلى الأمام معتقدًا” أن حزب الله فقد قدرته على إعادة بناء وتثبيت المعادلات، فوعد المستوطنين بالعودة السريعة إلى الشمال؛ فضرب بعض المسؤولين مواعيد قريبة جدًا” للعودة واستئتاف الحياة بشكل طبيعي.

 

لكنه؛ ومع انتظام عمل المقاومة الإسلامية بعد احتواء الضربات وترميم البنية القيادية والتشغيلية، بدأت تتساقط الصواريخ وبكثافة على “حيفا وما بعدها” إلى تخوم “تل أبيب”. كذلك أخرجت المقاومة للمرة الأولى صواريخ نوعية لم تحددها -سيتعرّف إليها الإسرائيلي من آثارها وبقاياها- استخدمت في قصف القاعدة 7200 فجر اليوم السبت، 12 أكتوبر/ تشرين الأول، والتي تقع جنوب حيفا (بين حيفا وتل أبيب). وسبق هذه الصواريخ النوعية بيان نوعي، أيضًا، صادر عن غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، ليل الجمعة- السبت، ودشنت فيه المقاومة مسارًا جديدًا يقوم على إطلاق تحذيرات للمستوطنين من مغبة التواجد بالقرب “من منازل المستوطنين في بعض مستوطنات شمال فلسطين المحتلة التي يتخذها العدو مراكز تجمع لضباطه وجنوده، وكذلك قواعده العسكرية التي تدير العدوان على لبنان وتتواجد داخل أحياء استيطانية في المدن المحتلة الكبرى؛ مثل حيفا وطبريا وعكا وغيرها؛ فهذه المنازل والقواعد العسكرية هي أهداف للقوة الصاروخية والجوية في المقاومة الإسلامية”.

 

للمرة الأولى تصدر المقاومة الإسلامية تحذيرًا للمستوطنين “من التواجد قرب هذه التجمعات العسكرية حفاظًا على حياتهم وحتى إشعار آخر” – كما ورد في البيان حرفيًا- ما يؤكد أن المقاومة ماضية في ترسيخ معادلة “حيفا مقابل الضاحية” بلا تراجع، وهي جزمت في بيانها هذا أنها “على عهدها ووعدها لشهيدها الأسمى والأقدس سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله (قدس سره الشريف)، بأن مستوطنات شمال فلسطين المحتلة ستبقى خالية من المستوطنين حتى وقف الحرب على غزة ولبنان”، وهذا تعهد يتكئء على قدرة نارية ما كانت لتلتزم به المقاومة لولا تأكدها من الإيفاء به.

 

هكذا أصبح العدو أمام معضلة استراتيجية: كيف يمنع الملايين من النزوح من حيفا وجوارها، وهو وعد مستوطني الحافة الشمالية بالعودة سريعًا؟. الإشكالية الثانية أن بنك أهدافه في الضاحية انتهى كليًا، ولم يعد هناك شيء يضغط به على المقاومة وبيئتها. لذلك؛ المقاومة الآن أكثر قدرة على تثبيت معادلة “حيفا مقابل الضاحية” ما يسمح بعودة النازحين إليها وإمكان تحييدها كليًا عن الحرب؛ لأنّ “الإسرائيلي” لا يستطيع تحمّل موجة نزوح ضخمة من حيفا وجنوبها، خصوصًا إذا دخلت “تل أبيب” في مرمى النيران اللبنانية، بشكل مكثف، بعدما باتت هدفًا مستمرًا” للنيران اليمنية والعراقية، ضمن برنامج مخفف كما يبدو حتى الآن. هذا فضلًا عن احتمال وقوع ضربات إيرانية. وهذا يعني أنه لن يكون هناك مكان آمن للصهاينة لكي يلجأوا إليه، حيث إنّ منطقة إيلات هي منذ أشهر في مرمى النيران اليمنية والعراقية، وهناك إمكان لتكثيف موجات القصف إذا اتسعت رقعة الاشتباك نحو حرب أوسع.

 

اللافت أنه بعد اعتكاف لنحو عشرة أيام؛ حصل أول اتصال أميركي من وزير الخارجية انتوني بلينكن مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، ولمدة 40 دقيقة، وكذلك مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي. طبعًا لا يعوّل كثيرًا على هذا الاتصال في ما يتعلق بوقف سريع للنار. لكنّ أهميته أنه جاء بعد تمنع أميركي عن أي تواصل وأعطائه الضوء الأخضر لـ”الإسرائيلي” للقضاء على حزب الله وإطلاق مشروع بناء سلطة جديدة في بيروت بعيدًا عن حزب الله وحلفائه وتهميش الشيعة في لبنان.

 

إذ تولّت مصادر إعلامية تسريب معطيات تفيد بأنّ اتصالي بلينكن بالرئيسين بري وميقاتي تركزا للإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية بعيدًا عن تأثير حزب الله وقضايا مرتبطة باليوم التالي في لبنان. وبالتأكيد؛ واشنطن مستعجلة جدًا لإنجاز صيغة سياسية لبنانية سلطوية جديدة قبل انتهاء العدوان. وهذا يدل على عدم ثقتها بقدرة “إسرائيل” على القضاء على حزب الله وتهميشه، وتريد الاستثمار في مجريات الحرب؛ لأن نتائجها غير مضمونة بحسب التجارب السابقة.

 

لذلك؛ قد يكون أيضًا هذا التواصل هو جزء من اتصالات تمهيدًا لفتح قنوات تواكب المستجدات الميدانية؛ لأن نتائج العملية البرية المخيبة لـ”إسرائيل” حتى الآن، وكذلك تكثيف الصليات الصاروخية والمسيّرات إلى حيفا وما بعد حيفا وصولًا إلى “تل أبيب” قطعت الشك باليقين بأنّ المخزون الاستراتيجي الصاروخي والمسيّر للمقاومة في لبنان لم يتضرر كثيرًا، ما يعني أن “إسرائيل” مقبلة على وضع لا تحسد عليه.

 

كما يمكن بدء تلمس اللغة التراجعية الأميركية من تصريحات آموس هوكشتاين، أمس الجمعة، لقناتي “ال بي سي” و “ام تي في” اللبنانيتين، ما يظهر انعدام التقدير المستقر لدى الأميركي و”الإسرائيلي” عن المآلات النهائية للمواجهة الراهنة. ويبدو أن الأمور لا تحتاج إلى وقت طويل- إن شاء الله- حتى يبدأ الصراخ “الإسرائيلي” وانتهاء النفاق الأميركي ومناوراته وخداعه التي وظفها لصالح العدو “الإسرائيلي”.

 

إذ إنّ الاختبار الأقسى لجيش العدو سيكون في الميدان البري في لبنان، فالانظار تتجه إلى طريقة التصرف مع إيران، وما إذا ارتكبت “إسرائيل” حماقة الاعتداء عليها؛ الأمر الذي سيؤسس – إن شاء الله- لمسار إنهزامي سريع وواضح وحاسم لكيان العدو ومن معه، وسيضع العملية العسكرية الجارية أمام خياري التوسع في المنطقة أو المسارعة لاحتواء الخسائر “الإسرائيلية” والأميركية.

 

مع الأسف؛ قرئت “عملية الوعد الصادق الثانية” من ناحية الاحتفاء بالنتائج الموضعية، وليس بأبعادها استراتيحية والمرتبطة بفشل جوهري لإحدى أهم مرتكزات القوة الغربية “الإسرائيلية”، وهي التكنولوحيا المتقدمة (مزيج من أنظمة رادار وسيطرة جو – فضائية عبر الأقمار الصناعية وصورايخ مضادة شديدة التطور والدقة والسرعة وذكاء صناعي) التي فشلت في استباق وإحباط الهجوم، وبالتالي ستتداعى مكونات إضافية من مكونات القوة الأميركية والغربية و”الإسرائيلية”، وهذا الأمر قد ينعكس على مجمل جبهات محور المقاومة بطريقة أكثر دراماتيكية في تفعيل قدراتها.

عبد الحسين شبيب

المصدر: العهد