“طالما حرصت على مجالسة كبار السن انطلاقا من اعتقادي بأن مجالسهم مدارس.. وجدت أن تراثنا العربي القديم قد وضع على سكة النسيان والطمس عقب وفاة جيل الطيبين، لذا قررت جمعه” بهذه الكلمات يستهل المواطن العربي الإيراني الحاج خليل الدحيمي حكايته مع تحويل بيته إلى متحف للتراث الأهوازي القديم.
الزائر لمنطقة الحميدية -الواقعة غرب مدينة أهواز – لا يواجه مشكلة في العثور على لافتة صغيرة كتب عليها “متحف تراث الأهواز” قد وضعت في أحد الأزقة الشعبية؛ حيث إن “أهالي المنطقة يرون إرشاد وتوصيل كل من يقصد المتحف واجبا تجاه ماضيهم المشرق”.
ولدى حضورنا المتحف، يرحب الحاج خليل الدحيمي البالغ من العمر 54 عاما بزواره في صالة بيته الذي حوله إلى معرض يحتوي على أكثر من 10 آلاف قطعة من التراث الشعبي العربي، ويؤكد للجزيرة نت أنه لولا ضيق المكان لعرض المزيد من التراث الذي جمعه بمجهوده الفردي طوال أكثر من 4 عقود خلت.
الضيافة العربية
وما إن تطأ قدما الزائر المتحف حتى يستقبله الحاج خليل بالقهوة العربية المعمولة بالدلال الأهوازية القديمة والتي كانت تصدر قبل عقود من مدينة الفلاحية إلى الدول الجوار وتحفظ بعض منها في المتاحف الخليجية في الوقت الراهن.
وخلال مواكبته الزائر في شتى أقسام المتحف؛ بدءًا من أدوات الضيافة العربية التي تحظى بحصة الأسد، ثم الآلات الحربية والزي العربي الأهوازي القديم فالصور والرسوم والمسكوكات والنقود والأواني النحاسية والفخارية والأجهزة الصوتية والمرئية وأدوات الصيد والفلاحة، يقوم خليل بتقديم نبذة مختصرة عن بعض المحتويات في حين يحرص على تقديم شرح مفصل عن البعض الآخر من التراث التاريخي.
وبعد القيام بجولة بين القطع المكدسة على الأرض وتلك المعلقة على الجدران والمتدلية من السقف، يختار المضيف خلف الوجار، مكانا للقيام بواجب الضيافة، وفق تعبيره، فيقوم بتحضير الشاي الداكن على الطريقة الأهوازية.
أما القهوة العربية فتحظى بمكانة رفيعة لدى المجتمع الأهوازي؛ فهي رمز الضيافة والتراث الضارب في عمق التاريخ، وفق تعبير الحاج خليل الذي يبدو أنه يحرص على نقل التراث العربي القديم شفويا للزوار، فيروي حكاياته باللغة العربية عن أهمية الضيافة في التراث الأهوازي وقيم الأجيال السابقة والمبادئ الاجتماعية لديهم، في حين ترتسم بسمة حنين على وجهه تعود به إلى الماضي حيث كانت المجالس مدارس على عهد أجداده.
تاريخ شفوي
وبينما ينهض الرجل الخمسيني بين الفينة والأخرى لاستقبال الضيوف، فإنه لا ينسى الحكاية عن تراث أهله فيستأنف القصة بعد عودته من حيث انتهى منها قبل قليل، ذلك لأنه يرى أن التاريخ الشفوي المواكب لكل قطعة تراثية في متحفه لا يقل أهمية عن قيمتها التاريخية.
ويقول الحاج خليل، إن رسوم السجاد الذي يغطي أرضية المتحف تروي تاريخا مشرقا لعرب اهالي أهواز من قيم أخلاقية وطقوس فالحروب والأمجاد والتمسك بالهوية العربية، مضيفا أنه جمع مخطوطات من الشعر العربي الأهوازي ومفرداته الخاصة قد لا تحتويها كبرى المكتبات الوطنية
وتابع أنه يعمل منذ عقود على جمع الأمثال الشعبية وحفظ الحكايات الأهوازية القديمة وتوثيق الأحداث التاريخية وأسلوب حياة الأجيال الماضية، معتبرا التراث الشعبي -بشقيه المادي والمعنوي- دليلا لمعرفة ثقافات الأمم وعبقرية أجيالها السابقة، مؤكدا أن كلام الأجداد كانت حروفه قليلة لكنه يدل على معان رفيعة جدا.
استقبال وعتب
ويرى أن المتحف الشعبي حظي باستقبال واسع لدى الرأي العام العربي من داخل إيران وخارجها إلى جانب القوميات الإيرانية الأخرى فضلا عن بعض السياح الأوروبيين الذين أعربوا عن إعجابهم بالقطع الأثرية التي اشترى بعضها من أسواق الخردة وحصل على البعض الآخر منها عبر تبرعات مثقفي مدينته، في حين بذل جهودا جبارة لإصلاح العديد من القطع التراثية التي كان قد رماها أصحابها في عداد السلع المهملة بعد أن فقدوا الأمل بجدوى الحفاظ عليها.
وبما أن الأوساط الرسمية في إيران ترحب بالنشاطات الثقافية، فإن الحاج خليل لم يواجه مشكلة في تسجيل متحفه لدى منظمة التراث الثقافي والسياحة الإيرانية والحصول على ترخيص رسمي منها، لكن تخونه نبرته عند الرد على سؤال حول دور الجهات الرسمية في بلاده في تجهيز المتحف، فيوجه عتبا خفيفا للجهات القائمة على الشؤون الثقافية ببلده لعدم دعمهم إياه في توفير مكان يليق بالسجل التراثي للشعب الأهوازي كما يصفه.
وخلص خليل إلى أن باب هذا المتحف سيبقى مفتوحا أمام جميع الزوار من داخل إيران وخارجها وبالمجان، وذلك بالرغم من تلقيه العديد من العروض المغرية من داخل البلاد وخارجها لشراء جميع القطع أو بعضها، مؤكدا عزمه “عدم التفريط بالتراث الشعبي الأهوازي والحفاظ عليه وتسلميه إلى الأجيال المقبلة”.