هل يمكن أن تنشأ شخصية بلا انفعالات؟ إن الإنسان يعيش لا ليعمل ويفكّر فحسب، بل ولأجل أن يبتهج ويعاني ويحب ويكره. وقد عبّر الفيلسوف لايبنيتز عن انحياز الوعي البشري وصفته العاطفية في قوله المأثور: ((لو كانت الهندسة مناقضة لأهوائنا واهتماماتنا لعارضناها وخرقنا مسائلها رغم كل براهين اقليدس وارخميدس)).
إن العاطفة حالة مباشرة وكامنة من حالات الفرد. ومقوّمات المجال العاطفي للإنسان هي الأحاسيس – البسيطة، البدائية – كالجوع والألم والخوف والعطش، والمشاعر – الانفعالات الاجتماعية – كالحب والكراهية والخجل والواجب والشرف، والأهواء – المشاعر العميقة – والتأثرات كالغضب واليأس والجزع.
وتنقسم كل الانفعالات والمشاعر إلى (مريحة ومزعجة) تثير الارتياح والبهجة والابتسام والضحك أو عدم الارتياح كالحزن والكآبة واليأس والدموع.
ومنذ القرن السادس عشر شخّص الطبيب الفرنسي بَاريه فائدة الانفعالات الايجابية بالنسبة للإنسان قائلاً: إن مجيء السيرك أكثر نفعاً لصحة أهالي المدينة من مجيء الصيدلية.
الإنسان يسعى إلى ما يعجبه ويحاول تجنّب ما يزعجه. فالهاوي الحقيقي يجمع اللوحات أو المسكوكات أو الطوابع أو الكتب لا لأنها نفيسة، بل لأنه ينال متعة من عملية الجمع بحد ذاتها.
والإنسان يطالع الرواية البوليسية أو يشاهد أفلام الكوارث لأجل استثارة الأحاسيس الشديدة، ويتمتع وهو يتأمل اللوحة ويحزن لفقدان الأقارب والأصدقاء.
إن حياة الإنسان العاطفية فريدة وليس لها حدود. وهي تتألف من قدر كبير من المشاعر والأمزجة والحالات الانفعالية؛ فالندم “يخزنا” ونحن مستعدون “لأن نغوص في الأرض” من الخجل، و”تُشل أوصالنا” من الجزع و”نتجمّد” خوفاً.
والحب يمكن أن يثير لدى الإنسان البهجة والحزن، السعادة والتعاسة، يمكن أن يضطهد المرء ويلهمه. وقد ألهم الحب دانتي وبوشكين وبايرون وشكسبير وغيته وبترارك، قصائد خالدة على مرّ الأجيال.
وكثيراً ما تتنازع المشاعر فيما بينها. وهذا ما تحدّث عنه بلوتارك مثلاً. فقد أنقذ جندي حياة الملك في إحدى المعارك، لكنه عوضاً عن الهرب الذي نصحه به رجل حكيم قرّر البقاء عاقداً الأمل على امتنان الملك، فكلّفه بقاؤه رأسه.
وتقود المشاعر الإنسان أحياناً إلى تصرفات غير مألوفة. فالتعاطف مع ضحايا كارثة من كوارث السفن والرغبة في مساعدتهم دَفَعَا الطبيب الفرنسي آلين بومبار إلى عبور المحيط بزورق خشبي بلا طعام كي يبرهن على أن الإنسان يستطيع البقاء على قيد الحياة في المواقف البالغة الشدّة.
والمزاج هو الجو الانفعالي للفرد، حالة من التوتر غير الكبير نسبياً تخضع لتأثير مختلف ظروف الحياة وشتى المشاعر، وما إلى ذلك. والهوى شعور قوي وعميق. وهذا الشعور يمكن أن يبديه المرء تجاه إنسان آخر أو تجاه الفن أو العلم أو العمل أو الرياضة. فعلى سبيل المثال، إن التعطّش إلى النصر الذي يستولي على الجنود في ورجال السياسة والعلماء والرياضيين..الخ هو شعور جامح.
وثمة حالة خاصة من حالات الإنسان هي الانفعال، حين تفلت الأفعال من عقال التفكير الحصيف. وقد قارن إيمانويل كانتْ سَورة الانفعال بالماء الذي يهدم السَّد، في حين يتصرف الهوى كالسيل الذي يشق مجراه أعمق فأعمق. وكان أرسطو قد حذّر في عصره من يتخذ قرارات في سَورة غضب أو انفعال، لأنها ستكون قرارات غير صالحة.
ويدّعي البعض أحياناً أن الانفعالات غير صالحة في عصرنا “النفعي”، والمطلوب هو الروح العملية وحسن التقدير. بيد أن علماء النفس يعتقدون أن الإنسان أن الإنسان المجرّد عملياً من ردود الفعل العاطفية – الغباء الانفعالي – يُعدّ مريضاً من الناحية النفسية.
فالانفعالات حاجة متأصلة ومتنامية لدى الفرد. ومن المثبت أن نشاط الإنسان الزاخر بالانفعالات أنجح كثيراً من نشاطه الذي يقتصر على حجج العقل الباردة. فالناس المجرّدون من العواطف لا يثيرون مشاعر الإعجاب.
و”الجوع” العاطفي الانفعالي –وهو رمز للعزلة والقنوط والكآبة– يستولي في كثير من الأحيان على الناس المحرومين من الاختلاط العاطفي كالعاملين شتاء في مناطق القطب الشمالي والقطب الجنوبي وأفراد طواقم الغواصات النووية وروّاد الفضاء.
وهناك منذ القدم تصور عن “جفاف” وعقلانية العالم، لكنه تصور خاطئ. فقد نوّه علماء النفس بأنه ((من دون الانفعالات البشرية لم تكن قط ولا توجد ولا يمكن أن توجد هناك تحريات بشرية عن الحقيقة)).
إن القابلية على تلقي الجمال تكوّن الذوق الجمالي وتبرز كدافع يؤثر في إبداع الشخصية. و”شاعرية العلم” تولد مشاعر جمالية للتمتع والقلق والإعجاب والانسجام. يقول كانتْ: ((إن الكون، بضخامته واتساع رحابه وجماله وتنوعه اللامحدود حيثما يتألق من جميع الجوانب، يغمر الروح في انبهار صامت. ولكن إذا كان تصوّر هذا الكمال يهيج مخيلتنا، فإن العقل –من جانب آخر– تسحره فكرة أن هذه العظمة تنبع من قانون عام واحد بنظام أزلي يتّسم بالكمال)).
عقيل يوسف عيدان