صدر حديثاً..

العيش في فلسطين.. مذكّراتٌ خلف جدار العزل العنصري

يمنح الكتاب مساحة منه لقرية دير ياسين ويأخذ فيرغا عبر لقاءاته شهاداتٍ من سكان المستوطنة عن مسألة المجزرة المروّعة التي حدثت فيها.

2024-10-21

يدرس الباحث من خلال لقاءاتٍ متعددة لفلسطينيين عاشوا خلف الجدار وداخله؛ تدميرَ العائلات والإقتصاد والمدارس وقسْمها إلى قسمين؛ فبقي بعضها في الداخل، بينما ما تبقّى منها بقي على الجانب الآخر. وبسبب مشكلات العبور، تدهورت الأعمال وبات النقل التجاري مشكلة.

لا يروي الكاتب والصحافي الإيطالي “جيوفاني فيرغا” في كتابه “العيشُ في فلسطين” (منشورات تكوين 2024) من منطق الباحث في المراجع والوثاثق، ولا يُضمّنه شعارات وشهادات نظرية بل هو شهادةٌ عمليةٌ من قلب الحدث.

 

ووثيقةٌ تروي من الأراضي المحتلة كيف يُقادُ العمل الأكثر فظاعة في الصراع العربي الصهيوني. ذلك أنه يتجه إلى الضفة الغربية، ويستكشف الأزمة الفلسطينية سابراً الظروف القاسية لمعيشة الفلسطينيين خلف جدار الفصل العنصري.

 

ويبدأ فيرغا بحثه الصادر بنسخته العربية (ترجمة دلال نصر الله) في إعادة بناء الحقائق التاريخية التي يتعامى عن رؤيتها الرأي العام العالمي؛ والتي لا تقتصر فقط على نقاط التفتيش، وجدار الفصل، والصعوبات البيروقراطية الهائلة؛ بل يركّز على فلسطين من جهة منسية؛ على فلسطين التي ضمّت رغم كل ما يحدث روّاد أعمال شباباً، وخاصة النساء، اللاتي شكّلن غالبية طلاب الجامعات اليوم.

 

“هل قيل عن فلسطين كل شيء؟ ليس بعد، لا يزال ثمة الكثير لنقوله”. هكذا يبدأ الباحث من الجدار العازل، ودراسة تبعاته السياسة والاجتماعية والأسرية، ولم يقل الاقتصادية التي كانت أكثر خطورة من الواقع؛ إذ أدى بناؤه إلى تقويض الاقتصاد الفلسطيني الهشّ أساساً، وعرقل نقل الأشخاص والبضائع.

 

واليوم بسبب التطهير العرقي الذي يتعرّض له الفلسطينيون في غزة، يتساءل الباحث: هل نُسي الجدار العازل؟ لذا يبحث في الأسباب التي أدّت دوراً في القضاء على كل إمكانية لاسترداد الحق، والذي بدورهِ وضع الأجيال الفلسطينية لاحقاً أمام خيارين: إما الرحيل أو المقاومة المسلحة.يقارن فيرغا في الفصل الأول الشعراء الفلسطينيين بالشعراء العرب في جزيرة صقلية، ويشير إلى تغييب مسألة التطهير العرقي الذي تعرّض له العرب في جزيرة صقلية؛ والذين هُجّروا من جراء الهجمات على الجزيرة.

 

فالغزو النورماندي نفى عرب صقلية عن أرضهم؛ الأمر الذي غيّر موضوعة آدابهم نحو آلام المنفى والحنين إلى الأرض، وهو ما يُسقطه على أزمة الفلسطينيين في تهجيرهم واغترابهم؛ إذ تعرّضوا للإقحام ذاته في تباريح المنفى، وأزيحت لدى شعراء فلسطين الموضوعات الشعرية المعهودة، وبقيت مسألة الأرض المحتلة بارزة في قصائدهم.

 

ومثلما ألغى الجدار ثقافة شعبٍ بحاله، فإن الباحث هنا وإذ يرمي في بحثه عن آداب الفلسطينيين وموسيقاهم، فهو ليؤكد امتلاك الشعب الفلسطيني ثقافة أصيلة عمرها آلاف الأعوام. وهو السبب في رفض أصحاب الأرض مغادرتها، الأمر الذي نجده جلياً في استكشاف الكاتب لجذور الشعب الفلسطيني والسماح له بسرد قصته بنفسه.

 

يدرس الباحث في فصلٍ آخر، من خلال لقاءاتٍ متعددة لفلسطينيين عاشوا خلف الجدار وداخله؛ تدميرَ العائلات والاقتصاد والمدارس وقسْمها إلى قسمين؛ فبقي بعضها في الداخل، بينما ما تبقّى منها بقي على الجانب الآخر.

 

وبسبب مشكلات العبور، تدهورت الأعمال وبات النقل التجاري مشكلة. فضلاً عن أن عشر سنوات ونيفاً من بناء الجدار قد دمّرت الاقتصاد الفلسطيني بعواقب شبيهة بعواقب القصف والتدمير.

 

ويستمر فيرغا في لقائه شباباً جامعيين، حيث يدرس مدى قابليتهم للتعليم الجامعي. وبغض النظر عن الإحصائيات، ففي الضفة الغربية لاحظ ديناميكية وعزم الشباب على الاستمرار ومواصلة الدراسة والعمل، إذ أبدوا استعداداً وأتقنوا اللغات، وهم يحاولون بناء اسم فلسطين رغم مواجهتهم صعوباتٍ لا يمكن تصوّرها.

أما عن قوانين الاحتلال الصهيوني، فيسجّل الباحث في لقاءاته الكيفية التي تسير عليها حياة الفلسطينيين في بلاد محتلة. فيناقش قانون (أملاك الغائبين) والذي يستخدمه الكيان كثغرة قانونية لغزو منازلهم. إذ يجري هدم البيوت والقيام بغاراتٍ ليلية.

 

وتُدمَّرُ حقول الزيتون. هكذا تساهم قوانين الاحتلال بشكل حاسم في تحديد التخلي القسري عن الأراضي. وقد أدّى هذا التخلي الكبير عن الممتلكات العربية دوراً رئيساً في استيطان مئات الآلاف من المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى الكيان الصهيوني منذ عام 1948. ويقول فيرغا إنه لا يزال من المدهش أن قانون الطوارئ المتعلق بممتلكات الغائبين لا يزال سارياً في “دولة” الاحتلال بعد ستين سنة.

 

في فصلٍ آخر يتناول الباحث مسألة تهجير المسيحيين في فلسطين. ويتخذ من مهاجري قرية عابود؛ وهي قرية لا تبعد عن رام الله الكثير، مثالاً عن مساحة فلسطينية كانت مسيحية، لكنها لم تعد كذلك الآن لأسباب عديدة.

 

ومنها يتطرّق الباحث إلى أعداد المسيحيين الآخذة بالنقصان، ومكوّنهم الفلسطيني المعرّض للزوال. فقرية عابود هي منطقة جغرافية جيدة لفهم مسألة تهجير المسيحيين. وعلى الرغم من صعوبة وصول فيرغا إلى القرية، نجده يسجّل أنها ليست نائية، إنما نقاط التفتيش، وأوقات الإغلاق جعلت النفاذ إليها أمراً منهكاً.

 

وهو ما دفعهُ للبحث في الأسباب التي هجّرت شبابها. حيث شكّل الجدار العازل سبباً رئيساً في انعدام الكسب الجيد، وصعوبة الحصول على تحصيل تعليمي، أو حتى على فرص العمل.

 

ويذكر أن سكان القرية شاركوا بتظاهراتٍ عنيفة خلال بناء الجدار، إلا أنها قوبلت بحملات اعتقال، ومضى بناء الجدار على قدم وساق. ويشير فيرغا إلى تناقص أعداد المسيحيين في الأماكن المقدّسة أيضاً،  واختفائهم كمكون فلسطيني.

 

حيث همّش دستور “دولة”الاحتلال وجودهم. فصاروا أقلية عددية، الأمر الذي دفعهم للنأي بعيداً عن البلاد: “إنهم أقلية، لكن وجودهم يظل ذا أهمية كبرى لدورهم كحاجز أعزل في الصراع”. ويذكرُ أن العائق الأكبر بعد البطالة والتشرّد، كان إقناع العديد من الشباب بالبقاء وعدم المغادرة، وهو ما أدى إلى اختفاء الوجود المسيحي على المدى الطويل.

 

يمنح الكتاب مساحة منه لقرية دير ياسين ويأخذ فيرغا عبر لقاءاته شهاداتٍ من سكان المستوطنة عن مسألة المجزرة المروّعة التي حدثت فيها. ويشير إلى أنه لا لبس فيما حدث، وفي إعدام الضحايا وتشويه الجثث.

 

فما حدث في دير ياسين كان حادثة راسخة في أذهان المستوطنين، لكنه يبرز مبالغة شهوده في تقديم التبريرات، ويتصدّى في الوقت ذاته لمراسل صحيفة إيطالية لها شأن في القدس؛ حيث يخبره بأن المستوطنين يغالون في إعطاء صورة مغايرة لتلك التي على أرض الواقع، وإذا تكلّمت معهم سوف يظهرون أنفسهم أنهم غير متعصبين، لكنهم كذلك.

 

ويكثرون من عبارة “أنا هنا لأن هذا المكان مثالي لتنشئة الأطفال”، بينما نكتشف لاحقاً أن المستوطنة مكان ينتمي إليه كل المتعصبين والصهاينة. ويفضي إلى وجودهم الذي ينتهك الحقوق الفلسطينية، وهو ما يثبته الباحث عبر إرفاقه صوراً بمثابة شواهد على اقتحام “جيش” الاحتلال بيت لحم بالمجنزرات، مرفقاً الأضرار المادية الجسيمة الواقعة على الفلسطينيين آنذاك.

 

وحيث صارت كلمة “فلسطين” كلمة تشير إلى مأساة، وتُرفق بكل ما يدل على نقاط التفتيش، وجدار عازل، وجحيم مخيمات. نمسي أمام نكبة مستمرة، عنوانها السلب. حيث يعيش الفلسطينيون الحياة وكأنها اختراع يومي لحزن راسخ.

 

وفي وقت يتعنّت فيه نتنياهو في قوله “سنبقى هنا للأبد”، فإن الكاتب يسجّل في نهاية بحثه قلقاً من إغلاق أبواب العودة، وسلب أصحاب الأرض حقهم عبر “جيش” الاحتلال، ومن خلال بربرية لها جذور بعيدة وعقود من العنف. هكذا تخرج أصوات الفلسطينيين من كتاب فيرغا من: اللاجئين، والمنفيين، ومسلوبي الحقوق، لتوثّق أكثر أعمال العنف فظاعة في تاريخنا المعاصر.

 

غنوة فضة

المصدر: الوفاق/ وكالات