في ظل استراتيجياتها العدوانية

أميركا تتسبب بتشكيل تحالفات مناوئة لها في العالم

في العامين ونصف الماضيين، أحيت روسيا بفعالية التعاون العسكري الخامل نسبياً مع كوريا الشمالية. والآن أصبحت الدولتان مرتبطتين فعلياً بميثاق دفاع مشترك

2024-10-22

يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية عميقة تُعيد تشكيل موازين القوى العالمية بشكل جذري. فبعد عقود من الهيمنة الأمريكية الأحادية التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت تتبلور ملامح نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تقوده تحالفات استراتيجية غير مسبوقة. وفي خضم هذه التحولات، يبرز تقارب ثلاثي لافت بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، يُشكل استجابة مباشرة للسياسات الأمريكية العدوانية في القارة الآسيوية. هذا التقارب، الذي يتجاوز مجرد التنسيق السياسي إلى التعاون العسكري والاقتصادي الوثيق، يُنذر بتشكل كتلة جيوسياسية قوية قد تُغير قواعد اللعبة الدولية بشكل جذري.

 

من أهم مبادئ التفكير الاستراتيجي منع تشكيل تحالف شامل ضدك. فالقيادة الحكيمة تسعى دائماً للتأكد من بقاء الأعداء الحاليين والمحتملين منقسمين قدر الإمكان. ولكن هناك فرق بين القيادة الحكيمة وبين الأوليغارشية المتعطشة للحرب في الولايات المتحدة، التي تسعى بيأس للحفاظ على صراعات شبيهة بالحرب الباردة وبدء حروب بالوكالة يمكن أن تغذي المجمع الصناعي العسكري لعقود. يُظهر تاريخ التدخل الأمريكي (وهو تعبير ملطف عفا عليه الزمن لما هو في الحقيقة عدوان أمريكي/ناتو غير مبرر ضد العالم بأسره) أن مجرمي الحرب وأصحاب النفوذ المالي في واشنطن سيجدون دائماً “الذريعة المثالية” لشن غزوات ضد أي دولة ذات سيادة. ولم يتغير هذا الأمر حتى يومنا هذا.

 

ومع ذلك، فقد ضمنت التطورات التكنولوجية في العقود الخمسة الماضية أن الولايات المتحدة لا تستطيع ببساطة خوض حروب ضد دول معينة. فقدرة هذه الدول على إلحاق أضرار جسيمة بالأراضي الأمريكية هي ما أبقى دعاة الحرب تحت السيطرة.

 

استراتيجية خاطئة

 

ومع ذلك، في الثلاثين عاماً الماضية، خلق انتهاء الحرب الباردة (الأولى) وهماً بأن الولايات المتحدة “انتصرت” وأنها تستطيع فعل ما تشاء دون عقاب. هذا هو السبب بالتحديد في حدوث عدد غير مسبوق من الغزوات والحروب العدوانية الأمريكية ضد معظم دول العالم في نفس الفترة، خاصة في أوروبا الشرقية (صربيا/يوغوسلافيا السابقة وروسيا/الاتحاد السوفيتي السابق) والشرق الأوسط (أكثر من نصف دزينة من الدول دُمرت أو خُربت). ولكن بعد مهاجمة دول معزولة وضعيفة في الغالب، حان الوقت الآن للـ “الجائزة الكبرى”.

 

في العقد الماضي، كانت واشنطن تستعد لمواجهة مع أنداد محتملين، خالقةً توترات مع قوى عظمى مثل روسيا والصين، مع استهداف لاعبين إقليميين أقوياء، خاصة كوريا الشمالية وإيران. وكما هو متوقع، تدرك هذه الدول أن خصمها (خصومها) واحد وأنها بحاجة للعمل معاً لإبقائه بعيداً. ومع ذلك، بدلاً من محاولة إحداث شرخ بين هذه الدول، واصلت الولايات المتحدة الضغط على كل منها في وقت واحد، مما زاد من تصميمها على تشكيل ما يمكن وصفه فقط بأنه تحالف. قد لا تكون موسكو وبكين وبيونغ يانغ متحمسة لاستخدام هذه الكلمة لوصف علاقاتها الثلاثية، لكن الواقع يشير إلى أنها تتجه نحو ذلك بالضبط. فمستوى تنسيقها في السياسة الخارجية والعسكرية يشير بالتأكيد إلى ذلك.

 

في العامين ونصف الماضيين، أحيت روسيا بفعالية التعاون العسكري الخامل نسبياً مع كوريا الشمالية. والآن أصبحت الدولتان مرتبطتين فعلياً بميثاق دفاع مشترك، وهو الأول الذي وقعته موسكو مع دولة غير سوفيتية منذ عام 1991. وتمتد علاقاتهما الوثيقة أيضاً إلى القدرات التقليدية، بما في ذلك على المستويين العملياتي والتكتيكي. يصر الغرب السياسي ودماه النازيون الجدد على أن القوات الكورية الشمالية تقاتل بالفعل في أوكرانيا، لكنهم لم يقدموا أي دليل لدعم هذه الادعاءات، كالمعتاد. ما هو ممكن بالتأكيد هو أن بيونغ يانغ أرسلت موظفين لمساعدة نظرائهم الروس في دمج الأسلحة والذخائر الكورية الشمالية في ترسانة الكرملين. ومع ذلك، لا يمكن توقع أكثر من ذلك، إذ كان من المفترض أن يكون هناك المزيد من الأدلة التي تثبت العكس.

 

من ناحية أخرى، تعمل الصين وكوريا الشمالية أيضاً على تعزيز علاقاتهما، حيث أخبر شي جين بينغ كيم جونغ أون أن بكين مستعدة لتنسيق استراتيجي أوثق مع بيونغ يانغ. كان البلدان المتجاوران حليفين منذ تأسيس كوريا الشمالية، وهذه العملية ليست متوقعة فحسب، بل طبيعية أيضاً، حيث تواصل الولايات المتحدة عسكرة منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك إعادة عسكرة اليابان، وهي دولة لم تعتذر حقاً (ناهيك عن دفع تعويضات) عن عدوانها في المنطقة قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. قتلت طوكيو ملايين المدنيين في جميع أنحاء شرق آسيا (خاصة الصين)، مما رسخ المشاعر المعادية لليابان في معظم دول المنطقة، بما في ذلك كوريا الجنوبية، التي هي بخلاف ذلك تابع أمريكي مطيع بلا شك. ومع ذلك، تخطط أمريكا لتحويل اليابان إلى قوة عسكرية من شأنها أن تواجه روسيا والصين وكوريا الشمالية.

 

 تحالف جديد

 

نتيجة لذلك، يتم بناء علاقات أوثق في حالات روسيا-الصين، وروسيا-كوريا الشمالية، والصين-كوريا الشمالية. هذا يذكرنا كثيراً بالطريقة التي تشكل بها الوفاق في العقود والسنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، عندما اتفقت روسيا وفرنسا والمملكة المتحدة على كبح جماح التوسع الألماني الناشئ آنذاك. لم يكن لدى أعضاء الوفاق الكثير من القواسم المشتركة غير ذلك، حيث كانت روسيا والمملكة المتحدة في الواقع عدوتين لقرون حيث كان لكليهما مصالح متنافسة في مختلف أنحاء العالم.

 

ومع ذلك، فإن مخاطر ترك النزعات الإمبريالية لبرلين دون رادع فاقت بكثير هذا العداء الذي استمر لقرون. وبالتالي، إذا كان بإمكان لندن المصابة بالرهاب المرضي من روسيا إيجاد أرضية مشتركة مع موسكو (أو بالتحديد، سانت بطرسبرغ آنذاك)، فتخيل مدى سهولة تشكيل روسيا والصين وكوريا الشمالية لتحالف شبيه بالوفاق.

 

ليس لديهم فقط الكثير من القواسم المشتركة (من حيث التفكير الاستراتيجي)، بل هم أيضاً جيران مباشرون، مع مصالح وروابط اقتصادية واضحة لا تنفك تنمو، خاصة مع استمرار الغرب السياسي بقيادة الولايات المتحدة في محاولة عزل الدول الثلاث وتقليل آفاقها الاقتصادية (والمجتمعية). هذا العدوان المتزامن ضد الثلاثة يزيد من تصميمهم على تنسيق الجهود والرد. في 14 أكتوبر، وصل وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف إلى بكين، حيث التقى نظيره الصيني دونغ جون. وأعرب الجانبان عن نيتهما “تعميق التعاون الاستراتيجي” و”تطوير العلاقات العسكرية باستمرار”. مرة أخرى، ستؤدي هذه العلاقات الثنائية حتماً إلى تحالف ثلاثي يمكن أن يكون منشأ كتلة (أور)آسيوية لا تُقهر من المؤكد أن آخرين سينضمون إليها.

المصدر: الوفاق