عمري أنفقته في القراءة والكتابة، أنظر لكتابتي بوصفها محاولات في فهم الوجود، واكتشاف ذاتي، وتفسير طبيعة الإنسان، ومعرفة العالم الذي أعيش فيه، وتحري وجوه الحقيقة وتعبيراتها المتنوعة، وأقرب وأوضح ما يوصل إليها من الطرق. لا أرى كتابتي جزميات ويقينيات نهائية، ذلك ما يجعلني أعيد النظر فيها وأمحصها وأغربلها، وأحاول اكتشاف ثغراتها وأخطائها قبل غيري، وتصويبها، من غير أن يؤذيني ذلك، بل يعزز ثقتي في كلماتي بعد تصويبها وتنقيحها.
كتابتي أثمن ما أنجزته في محطات حياتي، وإن كانت كتابتي وجع ومكابدة مخاض، لكن عندما أكتب عن الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في الدين، والإيمان والمحبة والتراحم، أشعر كأني أنصت لصوت الله في الوجود.
وعندما أدعو للإيمان والمحبة والتراحم والعيش في إطار التنوع والاختلاف، وأحاول أرسم بالكلمات صورة لله تضيؤها محبةُ الإنسان، تتكرس سكينة روحي وسلامي الداخلي.
لا أرى نفسي مخترِعًا أو مكتشفًا، أنا إنسان مثابر على مهمتي، مدمن على القراءة والكتابة، لا أعبث بوقتي، لدي عجز مزمن في ميزانية الوقت. لم أكن أتوقع في بداية حياتي أن أصبح كاتبًا، وإن كنت أتوق لذلك منذ سنوات العمر المبكرة. وما أدركت لأول وهلة ورطة الكتابة، إلى أن تحولتْ إلى صنعة العمر، فصرت أراقب كتابتي بحذر، وأتتبع انطباعات القراء الخبراء وأرصد تصويباتهم، وما ينبغي عليّ أن أقدمه لهم. تولد كتابتي بسلسلة مراحل، ما يقرأه القارئ في الكتاب هو المرحلة الأخيرة في سلسلة الولادات.
أكتب العبارات في ذهني، وأعيد صياغتها مرات متعددة، قبل كتابتها. في الفراش وأنا أحاول النوم أنشغل بهذا النوع من الكتابة الذهنية، وإن كانت هذه الكتابة زئبقية، لحظة أتكاسل عن تدوينها لا أعثر عليها حين استيقظ صباحًا، قلما التقط الفكرة بعد فوات أوان حضورها الذهني، حتى لو فتشت عنها بهدوء في الذاكرة لا أراها. أسعفني الهاتف الذكي منذ سنوات، إذ منحني فرصة كتابة هذه العبارات حيثما أكون، أُملي على الهاتف ما يخطر لي، وهو يدوّن ما أقول، ولاحقًا أعود لتحريره.
الكاتب مدين للقراء، وعليه مسؤولية كبرى يفرضها ضميره الأخلاقي ليكون وفيًا لهم، القراء يأتمنون الكاتب الذي يثقون بوعيه على عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، فعليه ألا يخذلهم، ولا يعبث بهذه الثقة الغالية. أنا قارئ شغوف بالمعرفة، عندما أقرأ بعض الكتابات وأشعر بالضجر، أتذكر مَن يقرأ كتاباتي ويعاني مثل هذا الشعور كما أعاني من تلك الكتابات، ذلك ما يستحثّني على إنفاق وقتي وطاقتي القصوى في الكتابة وإعادة الكتابة مرات متوالية.
لو أردت الكتابة أفكر طويلًا، وأقرأ كلَّ ما يتوفر في مكتبتي، وهي مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب المتنوعة، منتقاة بعناية قارئ محترف لتأمين ما يتطلبه شغفه بالقراءة وكتاباته. كنت أبحث في المكتبات الورقية، واليوم في الإنترنت، عما يخصّ الموضوع الذي أكتبه، أسعى بحدود قدرتي لدراسة الموضوع وبحثه من مداخله كافة، وصياغة رؤيتي بشأنه. لدي عادة، لا أعرف هل هي حسنة أو سيئة، كلُّ كتاب أعيد النظر فيه عند تقديمه لطبعة جديدة أعيد تأليفه، لذلك يرى القارئ الطبعة الجديد للكتاب ذاته وكأنه كتاب آخر، وإن كنت اليوم لم يعد وقتي يتسع للمزيد من عمليات إعادة الكتابة والتحرير.
خلق الخيال للإنسان، عبر الكتابة، عالمًا موازيًا للعالم الواقعي الذي يعيش فيه، ويتألم ويرتاح، ويحزن ويفرح، ويبكي ويضحك. الكتابة بمختلف فنونها وأجناسها وفرت للإنسان ملاذًا آمنًا يحميه من عبء الواقع ووطأته القاسية وعنفه. العالم الذي تصنعه الكتابة يجعل الإنسان يمتلك ما يبحث عنه، وإن كان يفشل بالظفر به في الواقع. بالكتابة يفرغ الكاتب آهاته ومواجعه بصورة كلمات، أكتم بداخلي شيئًا من آهاتي وحكايات مواجع حياتي وأخشى أن أموت قبل كتابتها. أكثر الكتّاب يداوون جروحهم بالكتابة، لولا الكتابة للبث الصراخ والآهات والأنين بين الضلوع، فمزّق الكاتب من الداخل.
الكتابة تقاوم الشعور بعبثية الحياة وافتقارها للمعنى. الكتابة تضاعف قوة الذات وتخفض شعورها بالعجز، وتعزز شجاعة التفكير، وتعمل على تصلب الإرادة وتنميتها. الكتابة تخفض شعور الكاتب بقلق الموت، بل تسعى لتحدى الموت عبر تنمية الشعور بالخلود الأبدي. الكتابة مخاض لكنها كلّما تقدّم عمري ترفد سلامتي النفسية. على الرغم من إرهاق الكتابة ومشقاتها، لكن لو لم أكتب أتعب نفسيًا جدًا. أحيانًا أنقطع عن الكتابة مدة، فأشعر ببؤس حياتي وضنكها، الكتابة تنهكني لكنها تنقذني من الشعور بضراوة آلام الحياة، وهشاشة الإنسان في خوض صراعاتها المتواصلة، وتمكّني من الاصرار على الحضور في تحدياتها المنهكة.
الكتابة الحقيقية تعبير عن تجربة وجود يتحقّق فيها الكاتب بمرتبة أكمل. الإنسان بطبيعته ينشد الكمال،كما لا تنفد الكلمات أبدًا لا تنفد صور الكتابة، لتعمل هذه الصور على الامتداد الواسع لمديات التكامل. الكتابة مهارة تمنح الكاتب مقدرة على تطويع الكلمات وبراعة في تنويع استعمالاتها، بشكل يتيح له توسيع آفاق معانيها بتعدد وتنوع تركيباتها وصورها، وفي ضوء ذلك تتسع آفاق التكامل في نظره.
لا تكون الكتابة كمالًا لكاتبها ومتعة لقارئها، إلا حين تبوح بغير الشائع من المعرفة العاميّة، وبما هو مودع من أسرار القلب، وتتجلى فيها استبصارات الروح. أبلغ النصوص تأثيرًا في القراء ما يكتبها الكاتب لحظة اتقاد عواطفه ووثبة قلبه ويقظة وعيه، حين يكتب القلب تتعطر الكلمات بنكهة فريدة. ما أجمل أن يحاول الكاتب جعل كتابته ضربًا من الرسم بألوان مضيئة، لحظة يراها القارئ يشعر كأنها صورًا مرسومة بألوان بهيجة. هذا النوع من الكتابة يمكث طويلًا، وهي قليلة، مقارنة بالكمّ الهائل من الأوراق المكدّسة على أرفف المكتبات، الغارقة في فائض لفظي لا يتذوق فيه القارئ المحترف كلمة لذيذة، أو يكتشف في كلماته فكرة جادة. اللغة ربما تخذل كتّابًا متمرسين، لحظة تنضب في مخزونهم اللغوي الكلمات المتناغمة وعمق العقل واتساع آفاق وعيه.
الإنسان كائن مسكون باكتشاف نفسه أولًا، واكتشاف الإنسان الذي يعيش معه، واكتشاف العالَم من حوله، أثمن الكتب ما يكتشف فيه الإنسان نفسه وغيره والعالَم من حوله. القراءة ضرب من الدهشة، القارئ الحاذق مكتشف، القراءة متعة الاكتشاف، عندما يقاد القارئ كأعمى تموت بهجة الدهشة، ويخسر متعة الاكتشاف. ينفر القارئ من السيرة الذاتية مثلًا، حين لا يقرأ فيها حديثًا عن الحياة الخاصة، وكشف خفايا لا يعرفها القراء عن الكاتب، ويراها تفتقر إلى نكهة الكتابة الممتعة.
لا يبحث القارئ عن الذي يعرفه الناس من شؤون حياة الكاتب العامة، وما يشترك فيه مع غيره، أو ما يريد أن يستعرضه من مواطن تفوقه، ويعلنه من نرجسيته المتضخمة، وكون حياته وسلوكه استثناء، ويتحدث عن صفات اكتسبت فرادتها في شخصيته، ويستعمل كلمات تبوح بالتفاخر والتبجح. هذه الكتابة مضجرة، لأن القارئ لا يلمس فيها ما هو مختبئ في أعماق الكاتب مما يريد العثور عليه بداخله. في شخصية صاحب السيرة يفتش القارئ عن المتكتم عليه، وما يستره من ثغرات وهشاشة، يتطلع القارئ أن يرى ما تخفيه أقنعة يغطي فيها الكاتب ما تضمره أعماقه، لينكشف له ما هو غاطس في هذه الشخصية، القارئ يعلم أن العناصر الغاطسة مكونة لما هو جوهري في شخصية كلِّ إنسان.
تعلمت من الكتابة أشياء متنوعة، إلا أن أنفس ما تعلمته منها وأتعبتني به، هو الإيقاظ المتواصل للعقل والتفكير المتأمِّل، والتساؤل عن المسلّمات، وما اشتهر أنه بديهيات وقضايا لا تقبل النقاش. أعرف أن إدمانَ التفكير حالةٌ غير مريحة للروح والقلب والمشاعر، هذا النوع من التفكير إن كنا نعيشه على الدوام تنفر منه النفس لأنه لا يُطاق، التفكير المتأمل عملية شاقة يهرب منها أكثر البشر، إذا تواصلت يقظة العقل صمتت العواطف وخمدت المشاعر، وهذه حالة لا يطيقها معظم البشر. تظل للروح استبصاراتها، وللقلب لغته وذوقه، مسارات الروح والقلب والعقل في حياتي متوازية لا مترادفة، وإن كان العقل يظل مرجعية عليا يضبط احتياجات الروح والقلب، ويضيء لهما خارطة طريق إشباعها، لئلا يتخبطا في متاهات الضياع، والغرق في الوهم والخرافة والشعوذة. لا أفكر إلا بشيء أساسي في حياتي وداخل عائلتي وعلاقاتي، وهو أن أكون وفيًا لما يفرضه عليّ ضميري الأخلاقي، وما يكرّس سكينة روحي وطمأنينة قلبي ويسقيهما.
أ. د. عبد الجبار الرفاعي