عبير شمص
في العصر الحالي الغلبة للصورة، حاول ويحاول العدو بكافة الوسائل في حربه على لبنان إبراز قوته وسيطرته عبر سرقته لبعض الدقائق لالتقاط صورة له في بعض القرى الأمامية في جنوب لبنان للإيحاء بتفوقه وتقدمه لكن شتان بين الحقيقة والواقع، خمسون ألف جندي لم يستطيعوا التقدم بضعة أمتار داخل الأراضي اللبنانية منذ أكثر من شهر، في المقابل مجاهدون يسطرون أروع الملاحم بنخبة هذا العدو براً ونموذجهم المشتبك الشجاع المقاتل حتى الرمق الأخير الشهيد ”ابراهيم حيدر” الذي واجه بمفرده فرقةً عسكريَّةً صهيونية، بمقاتليها ودبَّاباتها واستمرت المواجهة لساعات يصوِّب نحو أهدافه الكثيرة، هادئ الأعصاب ثابت القلب من دون أدنى أثرٍ من ارتباكٍ أو تردُّد، ومن دون أن يرفَّ جفنه أو ترتجف يده وهي تتنقَّل بين الأسلحة المتوفرة بين يديه. حطم هذا البطل وصورته التي أعتقد الصهاينة أنها ستحبط مجتمع المقاومة عند نشرها غرور وصورة الجندي الصهيوني المحتمي بالطائرات والدبابات التي تقاتل عنه، مظهرةً للعدو وللعالم أن هؤلاء المقاومين لا يمكن أن يهزموا، وحول هذا الموضوع حاورت صحيفة الوفاق الكاتب والباحث اللبناني الدكتور عبدالله عيسى، وفيما يلي نص الحوار:
تكامل الصورة مع الأعمال العسكرية والأمنية
يشير الدكتور عيسى إلى أنه:” يمكن القول في تكثيف مفيد أن الصورة هي سلاح مؤثر في كل حرب ولا سيّما “المركّبة” منها التي نشاهد فصولها اليوم في فلسطين ولبنان، فالصورة تتكامل مع الأعمال العسكريّة والأمنيّة، وتتلازم معها من أجل سلب إرادة القتال وليّ ذراع العدو في التفاوض، ورفع المعنويّات عند القيادة والجنود والجمهور، ومن أجل تكوين رأي عام موازي. والصورة هي عنصر مقوّم لأي سرديّة حرب، وتمتلك فعاليّتها في إثبات وتثبيت كل إنجاز، وتخفيض أي انكسار، واظهار المظلوميّة واستثارة العطف الإنسانيّ والدفع باتجاه تحويل كل تهديد إلى طاقة وشحنة للتصميم على المضي وفق الخطط المرسومة وبما يخدم أهداف كل طرف في الحرب الجارية، بل هي تسبق الحرب وتكون جزءًا من التمهيد لها، وترافقها في إدارة الوعي والإرادة، وتواكب مرحلة ما بعد الحرب لاستخلاص العبر ومعالجة التداعيات وتظهير الملائم. وتخضع أي صورة إلى فلسفة فكرية تستند إليها، وبالتالي تعبّر عن القيم التي تحكم تصوّراتها للواقع وللآخرين، وبما يخدم الجوانب السياسيّة والاقتصاديّة والمجتمعيّة والثقافيّة. وهي تكتسب أهميّتها في العالم المعولم، تعتمد عليها العولمة وتساهم في ترسيخها في آن، سواء في خدمة الهيمنة أو لناحية مقارعتها، إلّا أن خطورة الصورة تكمن أنها أصبحت في متناول الجميع لا سيّما من خلال الهواتف الذكيّة وشبكات التواصل الاجتماعيّ. ومصدرًا للمعالجة عبر الذكاء الاصطناعي كوسيلة حربيّة مباشرة فضلًا عن مساهمتها في الحرب النفسيّة. كما أنها تشكّل وثيقة تاريخيّة بل سمة تطبع الشعوب والمجتمعات بما تريد الترويج له عبر تنميطها بانطباعات ترافقها لسنوات، ويؤثّر تدفّقها المتكرّر في تعديل بعض القرارات عند القيادات وهو ما يطلق عليه اصطلاحاً بـ”كيّ الوعي””.
الترويج للبطل الأمريكي لا يجعل منه بطلاً
يؤكد الدكتور عيسى أنه ليس هناك نجاح أميركي بل خداع، فالترويج للبطل الأميركي عبر السينما وأفلام هوليوود لا يجعل منه بطلًا، لأن كل شيء يبنى على الكذب سيتهاوى مع الزمن ولو بعد حين، وهذا ما رأته البشريّة في وقائع هشاشة هذه الصورة المخادعة لا سيّما في فيتنام وأفغانستان والعراق ولبنان، وقد اعتمد على المجازر الدمويّة التي لا تعبر عن البطولة إنما عن الوحشيّة الأميركيّة، كأنما الخلاصة تفيد أن الإحتلال الأميركيّ لا يجيد القتال إلا عبر ألعاب الفيديو وفي السينما بينما على الأرض يُمنى بهزيمة نكراء، وأنه ثمة عوامل مؤثّرة في الاستلاب والإبهار أهمها فعل الهيمنة والاستحواذ والسيطرة على الفضاء والإعلام وثورة الاتصالات والتكنولوجيا والتحكّم بهما، وإخضاع الأنظمة وجيوشها والمناهج التربويّة والتعليميّة والمؤسّسات الدوليّة وتشكّلات المجتمع المدني وأنظمة الاقتصاد والشركات الاقتصاديّة العابرة للقارات والقواعد العسكريّة للإرادة الأميركيّة مقابل الاختلال في التدفّق الإعلامي المقابل، ورضوخ أغلب الدول والشعوب لمنطق الهيمنة، فتأتي الصورة المخادعة لتسيطر نتيجة غياب الفعل المقاوم للهيمنة بشكل متناسب ومناسب على مستوى طبيعة التحدّي أو نطاق التغطية، إلا أن المعادلة الرائدة تفيد: “حيثما حضرت المقاومة اندحر الإحتلال، وتبدّدت الدعاية والأوهام الهوليووديّة”.
فشل الدول العربية في تظهير الصورة الحقيقية للمقاومة
يشير الدكتور عيسى إلى أنه:” يجب أن نحلّل ما المقصود بالعرب، وعن أي صورة حقيقيّة وفي أي حقبة تاريخيّة؟ تختزن مفردة “العرب” عددًا من الدول والحركات والنخب والأفراد المقاومين، وكذلك هناك آخرون هم متخاذلون، وهناك متآمرون مع العدو. لذلك، لسنا أمام ظاهرة مجتمعيّة كليّة، إنّما أمام خيارات متباينة قد تصل إلى حد التناقض، وبالتالي أمام هويّات سياسيّة متعدّدة داخل ما تختزله مفردة “العرب”، أمعن العدو المستكبر على زرع الشقاق واللعب على التناقضات وتغذية مستخدميه. في العمق، على أهميّة الصورة، لم يكن القصور أو التقصير في الصورة تاريخيًا ضمن الوسط العربي، إنما المسألة تخضع إلى مستويين: الأول هو ما يتّصل بفعل الهيمنة وسطوتها على الوكالات والمؤسّسات الإعلاميّة والحكومات والأنظمة وكل ما تقدّم ذكره وما سواه، والمستوى الثاني يخضع لمطابقة الصورة للواقع وارتباطها بالإنجاز أو الهزيمة. وقد يأتي الكلام تاليًا في الحديث عن كفاءة الإعلام والإعلاميّين العرب والمسلمين، وقد استطاعت حركات المقاومة ولا سيّما الإسلاميّة منها ضمن المجال العربي أن تكسر نمط الصورة التي يقدّمها العدو، وأن تقدّم صورة لها في الشجاعة والبأس وصناعة الانتصار والأمل وقد نجحت في ذلك، وأرست مفاهيمها التي ترسّخت بفعل فصل الخطاب لسيّد المقاومة نصراللّه، المقترن بوقائع الانتصارات، ومن ذلك على سبيل المثال: “نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون”، “ولّى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصار”، “سنكون حيث يجب أن نكون” في انقلاب ثوريّ على إكراهات اتفاقيّة سايكس-بيكو، ومتلازمة “فرّق تسد” بتطبيقاتها الماكرة “لبنان أوّلًا” و”العراق أوّلًا”، التي يُراد منها سلب السيادة الوطنيّة بمصادرة أمنها القوميّ وعزلها عن عمقها الإقليميّ من أجل استتباب السيطرة للأميركيّ وأدواته ومن يدور في فلكه.
تطوير العمل الفني من شروط الانتصار وحفظه
يشير الدكتور عيسى أن: “الإمكانيّات الماديّة مؤثّرة لكنها غير محدّدة لإبرام القدر، لكن تطوير العمل الإعلاميّ والفنيّ المقاوم هو شرط من شروط صناعة الانتصار وحفظه، خاصة أن الامكانيات المادية الغربية تعمد إلى تغيير الصورة الواقعية، بينما أهل الحق والأرض يمتلكون يقينًا بواقع مرير فرضه الاحتلال، ولا يستطيعون تجاوز تلك التضحيات والانتصارات نتيجة الوجود المتنامي لظاهرة المقاومة وفاعليّتها وديناميّتها في الصراع وعلاقاتها المجتمعيّة ونشاطها الإعلاميّ التدرجيّ التصاعديّ، بينما نجد أن توسعة مفهوم الواقع ليشتمل على البعد الغيبيّ في علاقته مع الأفراد والجماعات والمجتمع باستناده إلى الرؤية الكونيّة التوحيديّة يفوق هشاشة الرضوخ لتفوّق الإمكانيّات الماديّة الغربيّة فحسب أو الاقتصار على الرؤية الماديّة”.
فشل محاولات إظهار القوة
يؤكد الكاتب اللبناني عيسى:” إن الاستعراض والمشاغلة بالنار والدمار من أجل سلب إرادة القتال، أو كي الوعي للدولة والمجتمع والناس للابتعاد عن الخيار المقاوم، لكن هذه الحرب انتقلت من المعركة على النقاط وإعادة ترتيب موازين الردع إلى حرب وجود وإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، في إحياء لمشروع قديم – جديد. ولبلوغ ذلك يحتاج الكيان ومن ورائه الولايات المتحدة الأميركيّة إلى متتالية الصور داخل الأراضي اللبنانيّة بغية إحداث الفتن في الجبهة الداخليّة اللبنانيّة وتقييد الفعل المقاوم، والظهور بمظهر المنتصر، فتراه يستحضر من العام 2006 بعض الصور ويزجّها في الأحداث الجارية أو يكثّف صورة من داخل قرى الحافّة الأماميّة رغم أنّه إلى الآن لم يستطع السيطرة التامة على بلدة من البلدات التي قصفها منذ 8 تشرين الأوّل 2024″. إذن، نحن أمام محاولات دائمة لإظهار القوّة أو استبدادها سواء للمضي في الاجتياح البرّي أو لما يقتضيه مظهر الإيحاء بالغلبة رغم التفاوت في القدرات العسكريّة والتكنولوجيّة، وما زال العدو يعيش “فوبيا” الخطاب الشهير لأمين عام حزب الله سيد شهداء الأمة السيد حسن نصراللّه بأن “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” عام 2000، بما أن الحرب القائمة تضرب أسس هذا الكيان الغاصب في أمنه وحاضره ومستقبله”.
انقلاب الصورة من الهزيمة إلى النصر
يشير الدكتور عيسى أنه :” هذه ليست الصورة الأولى للملحمة البطوليّة الإعجازيّة التي يخوضها أبطال المقاومة الإسلاميّة، ففي سجّلها وراهنها كنز لا ينضب من الفروسيّة والشجاعة، لكن صورة المشتبك “إبراهيم حيدر” أضافت معاني الثقة والاقتدار والهدوء في النيل من العدو من كل جانب بتسديد دقيق وثبات منقطع النظير. انقلبت الصورة التي أرادها العدو، وأظهرت حاجته من ملاحقة المقاوم الفرد الواحد باستخدام المسيّرات، فيما أظهرت بعض المشاهد التي بثّتها المقاومة ملاحقتها اليوميّة لتجمّعاته وتحشّداته عبر المسيّرات والصورايخ، كما أظهرت القتال اللاتناظري الذي يكشف عن إرادة راسخة لدى أهل العقيدة والأرض والعلاقة المتينة بالناس كيف يستبسلون ويقاومون، وهو مشهد يستعيد رائعة القائد المشتبك”يحيى السنوار” الذي لم يدخر حتى العصا في المقاومة والاستبسال، وهذه صورة تاريخيّة تحفر في الوعي الإسلاميّ والعربيّ والفلسطينيّ بل العالميّ حقيقة أن هذا العدو إلى زوال وأن هذه البطولات خالدة خلود القضية على طريق تحرير القدس وتحرير المنطقة من الخبث والدمويّة الإسرائيليّة والأميركيّة”.
فشل في تظهير الصورة الحقيقية للمقاومين
يلفت الدكتور عيسى إلى” أن المجتمع الفنّي والإعلاميّ منقسم، بعضه يخضع إلى العدو ويتراوح بين الخيانة والارتزاق، وبعضه ينخره الفساد وضعف الاحتراف وانعدام المسؤوليّة وربما الهزيمة النفسيّة الداخليّة، وبعضه يعبّر ببهاء وهيبة عن المقاومين الأبطال وعن أهلهم وبيئتهم الحاضنة أشرف الناس، إلا أنه يعاني من تحدّيات في الموارد والإمكانيّات والعقوبات في الفضاء والبث ومن الاعتداءات والاغتيالات أثناء مواكبة الميدان وحجم المعركة وتداعياتها. لذا يجب استنفار كافة الطاقات الجديرة من النخب الثقافيّة والإعلاميّة، واعتماد الكفاءة والفعاليّة والثوريّة في إدارتها الجهاديّة المشبعة بروح المقاومة لإظهار الصورة الحقيقيّة لأبطال المقاومة في لبنان وفلسطين ومجتمعات المقاومة الصامدة والصابرة، والتنافس على الإبداع بإخلاص مع نكران الذوات الفردية والمصلحيّة المؤسساتيّة الضيّقة، والارتقاء إلى مستوى التضحيات والتحدّيات في إعادة تكوين غرب آسيا على أساس مقاوم في كافة الميادين برؤية كليّة واثقة مع احترافات دقيقة في التغطية التفصيليّة، وفي كافة الأبعاد وبما يشمل كل جبهات المقاومة والصمود والإسناد والموقف والدعاء”.