الحرب على الشيعة تشبه الحروب التي شُنت على الموارنة

أعداء لبنان يعرفون جيداً ما يصنعون دمروا امتداد لبنان الدولي كونه عندما تبدأ المعركة النهائية على لبنان لا يوجد من يدافع عنه في العالم، الشيعة أثبتوا انهم صناديد اقوياء كالقلاع لكن ايضاً عليهم ابراز الجانب السياسي في مسيرتهم، وإذا كنا جميعًا نرغب في أن يبقى هذا الوطن، يجب أن نكون مستعدين لتقديم التضحيات.

2024-11-12

في عام 2019، اوصلني ابن عمتي، للقاء أحد رجال الشخصيات المسيحية المارونية. بعد السلام والحديث العابر، اعتذر ابن عمتي وتركنا وحيدين. بدأ الرجل حديثه بهدوء غريب، وكأن الكلمات كانت تتسلل عبر ذهنه وتترجم على لسانه. حديث طويل، لكنه كان غارقًا في المعاني، كمن يريد أن يفرغ في لحظة ما تراكم من سنواتٍ من الأسى والهموم.

 

قال لي: “نحن المسيحيون، دفعنا الثمن الغالي. لم يكن سبب تكلفتنا هذه كوننا أقلية في الشرق أو لأن الصراع كان يلف المنطقة فقط. لا، بل كان السبب أننا حلمنا بلبنان، حلمًا أن يكون كـ باريس في بهائها، في رقيّ أحيائه. حلمنا أن تكون محافلنا الثقافية تعج بالأفكار التي تضيء أفق العالم، أن تكون جامعتنا في مصافّ كبرى الجامعات، ومستشفياتنا مضرب مثلٍ في الطب، وأن يكون لبنان مركزًا ماليًا يحافظ على أموال البشر.”

 

وتابع بصوتٍ يختلط فيه الألم والفخر: “نحن الوحيدون في العالم الذين يحق لنا أن نتفاخر بلبنان. ليس لأن هذا البلد كان مذكورًا في الكتب المقدسة فحسب، بل لأنه كان يطبق مبادئها. كان لبنان هو البلد الذي يقرع فيه جرس الكنيسة على أنغام الأذان، وهو البلد الذي يشرق صباحه على تحيةٍ تملأ القلب أملًا.”

 

في عام 1950، تجاوز عدد سكان لبنان المليون نسمة، لكن البلد لم يكن مجرد رقم. كان وطنًا مليئًا بالكُتاب والفلاسفة مثل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، كان وطنًا له مسرحه وفنونه، مثل فيروز ونصري شمس الدين. كنا، ونحن نطوف أرجاء العالم، نسمع عن لبنان في كل زاوية، وكان الحسد يلاحقنا كأمة صغيرة لكنها عظيمة بأفعالها. وكان ذلك الحسد يتسلل إلينا، وكأننا نعلم أن الهجوم سيأتي من كل جانب: قريبًا وبعيدًا.

 

لكن الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان في منتصف السبعينيات كانت بداية التحولات الكبرى في البلاد. لقد كانت جراحًا عميقة أصابت النسيج الاجتماعي والسياسي للمجتمع اللبناني، وتحت تأثير تلك الحرب المدمرة، دُمرت الدولة وتصدعت أركانها. بعد سنوات من القتال، ظهرت اتفاقيات الطائف في عام 1989 كحلٍّ سياسي يهدف إلى إنهاء الصراع، لكنها جاءت بثمن باهظ. كان من بين أبرز تداعيات اتفاق الطائف تقليص صلاحيات الرئيس، وهو ما شكّل ضربة قاسية للموارنة الذي قيل لاجلهم رسمت حدود لبنان الكبير.

 

بمعنى اوضح اراد العالم ان يقول للموارنة وافقنا على تقليص دوركم لصالح ظهور الدور الاسرائيلي، وحتما الكثير من الدول العربية ان كان في السر او العلن كانت موافقة على ان ينتقل هذا الدور الى “اسرائيل”.

 

قال لي الرجل وهو يبتسم: “إياكم أن تظنوا أن تلك الحروب كانت نهاية، فلبنان الذي صُهرت فيه صيغة التعايش بين مكوناته بالدم، لا يمكن تدميره بسهولة. وعندما تكالبت القوى على هدم لبنان، كان الصمود هو الأمل.”

 

ثم تابع: “لبنان لم يكن حلمًا صغيرًا. حلمنا بلبنان قوي في السياسة والاقتصاد والطب. لكن الحروب التي شنّت عليه كانت أكبر من أن تحصى. وبعد أن دُمرت لبنان، بدأ الشيعة في بناء لبنان آخر، لبنان المقاوم.”

 

“لا تعتقد أن الحرب على الموارنة كانت صغيرة؛ بل كانت حرباً عالمية. طاردونا من أمريكا إلى أوروبا وصولاً إلى لبنان. هل تعلم كيف كنا نسيطر على جزء من السياسة العالمية؟ لقد احتاجوا إلى سنوات لمحاصرتنا في أروقة البيت الأبيض، كما احتاجوا إلى عقود لاقتلاع امتدادنا وتأثيرنا الماروني في السياسة والإعلام الأوروبي. حاولت العديد من الدول أن تجد بدائل عن دورنا، لكنها اليوم فشلت، وخاصة في الدول العربية.

 

ربما تبدو الحرب على الشيعة صغيرة أمام الحروب التي شُنت علينا، ومحصورة في اتجاه واحد؛ لكن في السياسة، التي هي فن الممكن، تُصنع المعادلات.”

 

ابتسم وهو يقول: “ولكن يجب أن يحذروا. لا تظنوا أن البناء سيكون سهلاً، فبعد أن دمرت القوى الكبرى لبنان سويسرا الشرق، لن يترددوا في تدمير لبنان الذي قد يُبنى بالتضحيات.”

 

ثم أخذ نفسًا عميقًا وقال: “ولكنني أخشى أنكم، أنتم الشيعة، لا تدركون حجم العاصفة التي ستمر فوق لبنان مجددًا. صحيح أنكم أقوياء اليوم، ولكن عليكم أن تكونوا حذرين. كلما تعاظمت قوتكم تعاظمة قوة الاعداء ضدكم، وتشعبت وتعمقت اكثر، فعندما تواجه العاصفة، لا بد من الانحناء قليلاً كي لا تُكسر. لا يعني الانحناء الضعف، بل هو الحكمة، هو البقاء في وجه الرياح العاتية دون أن تنكسر عظامك. لبنان لا يُبنى بالقوة فقط انتظرونا حتى نستعيد كامل قوتنا السياسية والدبلوماسية ونكمل معا وجنبا الى جنب.

 

اعداء لبنان يعرفون جيدا ما يصنعون دمروا امتداد لبنان الدولي كونه عندما تبدا المعركة النهائية على لبنان لا يوجد من يدافع عنه في العالم، الشيعة اثبتوا انهم صناديد اقوياء كالقلاع لكن ايضا عليهم ابراز الجانب السياسي في مسيرتهم، وإذا كنا جميعًا نرغب في أن يبقى هذا الوطن، يجب أن نكون مستعدين لتقديم التضحيات.”

 

قال لي: “نحن الموارنة لم ننكسر. بعد عام 1990 لكن انحنينا أمام العاصفة الدولية التي هددت وجودنا على مرّ نصف قرن. لقد سجنوا ونفوا قادة الموارنة، حتى اننا امتنعنا عن التصويت لكافة المجالس النيابية منذ عام 1992 حتى عام 2005، غيبونا عن المشاركة في القرار السياسي الوطني، حجبوا عنا الاعلام، لكن نهضنا من جديد، ونحن نثبت للعالم أن الطائفة المارونية ضرورة لمنطقة الشرق الأوسط.”

 

ثم أردف: “لكنني أخشى أنكم، أنتم الشيعة، إذا لم تحترسوا وتعرفوا متى تنتهي العاصفة، قد تجدون أنفسكم في مواجهة قوى أكبر من قدرتكم على الصمود. حافظوا على حلمكم، ولكن تذكروا أن البقاء في لبنان يتطلب منكم الحكمة والحذر بقدر ما تملكون من القوة، لا يجب ان تكون القوة السياسية اقل من القوة العسكرية”.

 

على الشيعة التنبه هذا العالم يتقن فن الخداع والكذب، الموارنة لم يقولوا للفلسطنيين الا ما قاله الملك حسين عام 1970 وما قاله السادات عام 1974 وما قاله الرئيس الاسد، لكن النظام العالمي اغلق جبهة الاردن، وهادن جبهة سيناء، وكرس وقف الاعمال العسكرية في الجولان، وتفجر لبنان، وهو مشتعل حتى اليوم.

 

وقبل الانصراف قال لي، كنا مثلكم مندفعين الى اقصى الحدود، لكن ما حصل في الجبل عام 1983 جعلنا نتوقف قليلا لنعيد الكثير من الحسابات، مصالح الدول لن تتوقف عند احد، حتى كل تلك الوعود والتحالفات تنتهي وتتغير عندما يظهر من يحل مكانك، وبحال لم نحافظ بكل الوسائل على لبنان لن يبقى لاحد حتى “مرقد عنزة”

 

هكذا كانت هذه الجلسة. حكاية حلم ضائع اسمه لبنان، لكن حتما هناك حلم آخر بدأ يتشكل في الزمنٍ الصعب، والدعوة للبقاء حذرين، لأن العاصفة قادمة، ولا بد من الانحناء قليلاً كي لا تنكسر، والعمل كثيرا على المحافظة على الوحدة الوطنية لانها الدرع الاخير لوطن يسعى العالم الى حذفه من الذاكرة وشطبه عن الخريطة، فقط لان شعب لبنان كان يحلم بكل قيم الانسان.

 

بقلم الكاتب والمحلل السياسي اللبناني ناجي أمّهز

 

المصدر: ايكنا