أيها الأصدقاء والأخوة، كان بودّي أن أكون حاضرًا بينكم لولا الظروف القاسية التي تعرفون التي تفرض عليّ فرضاً أن أبقى في لبنان. لكنَّ أربعين سماحةِ السيد الشهيد، كبيرِ شهداء هذا العصر، تجمَعُ أحرارَ العالم كلَّهم إلى مقامٍ واحد، ولو تباعدَت بهم المطارح. إنّه مقام الكرامة والصدق والشجاعة والشهامة والإيمان، والسعيِ إلى الشهادة في سبيل الله والحقّ والوطن. فهنيئًا لمن كَتَبَ له اللهُ على لوحِ قدَرِه أن لا تكونَ منيّتُه إلاّ على ذروةِ مجده، في النشْأَتَين الأولى والآخِرة؛ وفي هذا المعنى أستعير ببعض التصرّف بيتًا من الشعر لبدويِّ الجبل فأقول:
لِحُتُوفِ الرَّدى شمائلُ كالنّاسِ فَمَوْتٌ وَغْدٌ وموتٌ نبيلُ
فمباركٌ للشهداء، وعلى رأسهم سماحة سيِّدِ المقاومةِ، استشهادهم النبيل.
في الأربعين، سأحاولُ أن أجفِّفَ دموعَ الحبر، وأمضي إلى آفاق المسيرة العطِرَة التي ملأت هذه الأرضَ شموخًا وتواضعًا، وبطولةً وتضحية، وقُرْبى من الناسِ برغم الاحتجابِ القسريّ، وسُكنى في مِلْءِ القلوبِ والأشواق والآمالِ والعزائم، وإعلانًا حيًّا بأن الفضيلةَ يمكنُها أن تصيرَ إنسانًا من لحمٍ ودم.
والحديثُ في فضائل السيّد الشهيد، يمضي بنا قُدُمًا إلى البعد الإيمانيّ الذي شكَّلَ السِّمَةَ الأكثرَ بروزًا في شخصيَّتِه. فالعلوم الدينية التي تلقّاها وواظب على تدريسِها، وخصوصًا في ليالي رمضان وعاشوراء، لم يتَّخِذْها من أجل الدرجات العلمية فقط، بل كشفَت لنا خُطَبُه فيها أنّه شخصيَّةٌ إيمانيةٌ استثنائية، كمثل ما هو مرجعيةٌ دينية، ذلك أنه كان مدركًا تمام الإدراك أنّ غاية الحياةِ الدُّنيا عيشُ مكارمِ الأخلاق، عبر الإيمان المقرون بممارسة الفضيلة عمليًّا ويوميًّا، فلقد دعا إلى والكلام لسماحته:” التعامل داخل العائلة بالمودّة والرحمة وحسن العشرة واستحباب التوسعة على العيال، وصلة الرحم، والعلاقة مع الجيران، واحترام الآخرين، والعمل والكد، وكسب الرزق الحلال، وإدخال البهجة إلى قلوب الناس، وتجاوز الأنانية للتفكير بالآخرين بحياتهم وبمعيشتهم، أما التفكير بطريقة أنا وحزبي وعائلتي وبعدي الطوفان، فلا يُعتبر ثقافة إنسانية”.
كما دعا الجيل المؤمن إلى الترقّي اذ يقول سماحته:”بالعلم وبالتكنولوجيا والتطوير العلمي، وبالأمن الغذائي والصحي وبالتأكيد على سنّة الزواج، وبتكوين العائلة وكلّ ما يرتبط بتكوينها، والحث على الإنجاب”، ومن أثرِ عيشِ الفضيلةِ عندَه زهدُه بكل مَتاع الأرض ومُتَعِها، واختيارُه أن يكون عمرُه كلُّه منذورًا لله والحقِّ والأمَّة. فقد تخلّى عن عَرَضِ الأرضِ لكي ينالَ جوهرَ السماء. وتمثَّلَ ذلك في دعوتِه إلى الوحدتين الإسلامية والوطنية ومكافحة الإرهاب الذي هو المعنى المرادفُ للصهيونية. وفي التماهي بين ثقافة الحياة والعمل المقاوم، لأن الحياة التي لا كرامةَ فيها أشبهُ بالموت. وفي هذا يقول سماحته الجهاد والمقاومة والشهادة جزءٌ من ثقافة الحياة الطيبة السعيدة العزيزة لأنها من عناصر الدفاع عنها وبقائها… ثقافة الحياة لا تأتي من أمريكا بل ثقافة الموت، ومن يعبِّر اليوم عن ثقافة الحياة هو من يدافع ويقاوم ويستشهد ومن يصمد”.
وكان رسوخُ اعتقاده بثقافة الحياة الكريمة هذه، جسرَ عبوره إلى الآخر الشريك في الوطن. وما تفاهم مار مخايل الذي عقده مع التيار الوطني الحر برئاسة العماد ميشال عون، سوى تعبيرٍ عن هذا الإيمان بالشراكة الوطنية، مارسَه بالفعل في جميع الاستحقاقات التشريعية والتنفيذية، وفي مجرى الحياة الدستورية في لبنان، التي خاضَها كلٌّ من موقعٍ وزراءُ الحزب ونوّابُه. ومن أجل الحفاظ على الوحدة الوطنية كان سكوتُه عن الإساءات والاعتداءات والتجاوزات التي ارتُكِبَت بحق المقاومة وبيئتِها، كي لا يكون في ردة الفعل أيُّ ضرر على استتباب السلم الداخلي. و”لأنَّ كبيرَ القومِ لا يحملُ الحِقدا” كما يقول الشاعر، فلطالما دعا القوى السياسية اللبنانية إلى أن يشدَّ بعضُها أزرَ بعضٍ حمايةً للوطن ومستقبل أجيالِه الطالعة. يقول: “رسالتي إلى الداخل اللبناني، إلى المسلمين والمسيحيين، إلى الشيعة والسنة والدروز وكل أتباع المذاهب المسيحية. أقول لهم نحن رسالتنا واضحة، نريد لبنان بلداً للجميع لكل أبنائه لكل طوائفه، لا نريد تغيير الصيغة السياسية، نحن لا نطمح لحكم لبنان ولا للسيطرة على لبنان ولا على الاستبداد بلبنان”.
أما الموقف من الصهاينة وجرائمهم، فحسبُ السيد الشهيد أنه هزمَهم في حياته مراتٍ ومرات، وأنه هزمَهم أيضًا باستشهادِه لأن دمه انفجرَ على طول خطوط المواجهة الأمامية، أساطير بطولةٍ ستُزيح حتمًا هذا العدوان وتقضي على الكيانِ المسخِ القائم على الأسطورة الميّتة منذ عشرات القرون، والذي منذ انزرع في أرضِنا يمارسُ طبعَه العنصريَّ القاتل ويزرعُ الموتَ والدمار في كلِّ دول الإقليم.
ويا سماحة السيد الشهيد!حاضرٌ أنت في غيابك كأرزةٍ يتّكئ عليها الزمان، لكي يتفيّأَ سيادةً وكرامةً. ونحن باقون على العهد ما تداولتِ الأرضُ النهارَ والليل، عزائمَ تتزاحمُ على دروبِ النصر والتحرير، وقلوبًا مؤمنةً بما علَّمْتَها: أن الصهاينة لا يقتصرُ عدوانهم على فلسطين وحدها، بل هُم داءُ هذا الشرق كلِّه، وخرابُ العالم أجمع. ذلك أن فكرَهم الذي بنَوا عليه وجودَهم فوق أرضِنا، قائمٌ على العنصرية البغيضة والهوسِ المريضِ بالدماء المسفوكةِ والمعالمِ المهدمة المنهوبة. وباقٍ أنت بيننا في كلِّ بندقية وصاروخٍ ومسيَّرة، في نظرات كلِّ طفلٍ ودموعِ كلِّ امرأة، وفي رجاءِ أن تكون لنا أوطانٌ موحدةٌ على القيم والخير، سيِّدةٌ على قرارِها ومصائرِ أجيالِها، متحررة من أدران الصهاينة القتلة.
سماحة السيد الشهيد، قبل أن يفيضَ الحبرُ دمعًا، اسمحْ لي أن أطويَ الكلام.
السلام عليك يا سيدي ومولاي يوم ولدت ويوم استشهدت، والسلام موصولٌ لأصحابك المقاومين الميامين الشهداء منهم والمرابطين، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
كلمة وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى
في مؤتمر مدرسة الشهيد نصر الله