قطع الطريق على الاحتلال الإسرائيلي

حكاية “الهريسة” التونسية: التراث اللامادي والصراع العربي الإسرائيلي

بعد الإدراج الرسمي لملف "عنصر المعارف والمهارات المرتبطة بفخار سجنان" في قائمة التراث الثقافي اللامادي لليونسكو يوم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، يكون ملف "الهريسة" هو الملف الوطني الثالث الذي تقدمت به تونس قصد تسجيله كتراث لامادي إنسانيا.

2023-01-23

أقرّت اللجنة الدولية الحكومية لليونسكو، في دورتها 17 المنعقدة بمدينة الرباط المغربية من 28 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 3 كانون الأول/ ديسمبر 2022، تسجيل عنصر “الهريسة” المعارف والمهارات والممارسات المطبخيّة والاجتماعيّة” ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية.

الحكاية انطلقت منذ أكثر من سنة، حين صرح غازي الغرايري السفير المندوب الدائم لتونس باليونسكو لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، بأن جلسة عمل جمعته بسكرتير اتفاقية اليونسكو حول حماية التراث اللامادي لسنة 2003 “تيم كورتيس”، تم خلالها تقديم النسخة الورقية لملف “الهريسة” كخطوة أولى نحو تسجيله ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي اللامادي للإنسانية. الملف تضمن كل الإثباتات التي تؤكد أن هذا الموروث تونسي. ويبقى إقراره نهائيا من قبل اليونسكو في صورة عدم اعتراض أي دولة عضو في المنظمة، وهي مسألة شكلية.

الملفّ سلط الضوء على “الهريسة” بوصفها “ذاكرة حيّة تتجسّد في جملة من المعارف والمهارات التقليدية والفنون والعادات المطبخية والغذائية”، ويبرز ما تحيل عليه من “قيم ذوقية واجتماعية ورمزيّة، فضلا عمّا تنطوي عليه من تنوّع وإبداع يتجلّيان في ثراء الأساليب التقنية لإعدادها واستخداماتها حسب التقاليد المحلية والجهوية، وما تشهده من تجديد مستمرّ يرسّخ دورها في المجتمع”.

وكانت تونس سجلت قبل “الهريسة” ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية:

2018 – المعارف والمهارات المرتبطة بفخار نساء سجنان (ملف وطني).
2019 – النخلة: المعارف والمهارات والتقاليد والممارسات (ملف عربي مشترك) – الكسكسي: المعارف والمهارات والممارسات المرتبطة بإنتاجه واستهلاكه (ملف مغاربي مشترك مع الجزائر والمغرب وموريتانيا 2020).

2020 – صيد الشرفية بجزر قرقنة (ملف وطني)

2021 – فنون الخطّ العربيّ، المهارات والمعارف والمُمارسات (ملف عربي مشترك)، والملف الوطني: “فنون العرض لدى طوايف غبنتن”، والملف العربي المشترك حول “النقش على المعادن”.

قطع الطريق على الاحتلال الإسرائيلي

وتأتي مسارعة تونس لتثبيت ملكيتها لهذه الأكلة الشهيرة (الهريسة)، بسبب تطور نسق المسعى الإسرائيلي لسرقته، ضمن جملة من السرقات لعدد من الأطباق العربية ونسبتها لها. وقد بدأت وسائل إعلام إسرائيلية وفي مقدمتها موقع “إسرائيل بالعربي” الترويج للهريسة باعتبارها طبقا إسرائيليا، جلبه اليهود المهاجرون من الأندلس إلى الأراضي المحتلة بفلسطين.

وتتعمد وسائل الإعلام الإسرائيلية الغموض والخلط بين اليهودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، مستغلة حقيقة مساهمة يهود تونس في استغلال الفلفل وإعداد الهريسة وتحويلها إلى عادة غذائية مقترنة بجميع أنواع الوجبات الغذائية في مدينة نابل وغيرها من المدن التونسية، في محاولة للسطو على الهريسة، كما سطت على غيرها من الأكلات والملابس والأغاني والعادات العربية.

الهريسة والهريس

الهريس أكلة شعبية اشتهر بإعدادها أبناء الخليج الفارسي، وتحضر من (حب الهريس) وتطبخ مضافا إليها اللحم أو الدجاج وتسمى “عرسيِّة”، ويجهز الهريس، ويقدم في أغلب المناسبات الخاصة.

تتشابه أسماء الأطعمة أحيانا، وتظهر أسماء مختلفة للطبق الواحد، فمثلا طبق العاشورا في ليبيا يسمى هريسة، ويعد بنفس الطريقة التي يعد بها في مصر والسودان. وفي الأردن طبق حلاوة شرقية، وفي منطقة الخليج الفارسي تعد الهريسة من اللحم والقمح والسمن.

والهَرِيسُ لغة: ما هُرِسَ، وقيل: الهَرِيس الحب المهْروس قبل أَن يُطْبَخ، فإِذا طبخ فهو الهَريسة، وسميت الهَريسَةُ هَرِيسَةً، لأَن البُرَّ الذي هي منه يدق، ثم يطبخ، ويسمى صانعُه هَرَّاسا”.

ويشتق التونسيون كلمة الهريسة من كلمة “الهرس”، في إشارة إلى عملية دق الفلفل بـ”المهراس” النحاسي، كما تطلق أيضا عليها تسميات مثل “الفلفل المرحي” أو “الهريسة الحارة ” أو “الهريسة العربي”.

والهريسة التونسية الحارة أو ما يطلق عليها عند التونسيين بـ”الهريسة العربي” هي خليط يتكون أساسا من الفلفل الأحمر الطازج والثوم والملح والتوابل مع إضافة زيت الزيتون.

أما طريقة الإعداد، فهي تختلف ولكن أغلبها يلتزم بتنظيف الفلفل وإضافة الثوم له وطبخه بالبخار ثم طحنه يدويا، وإضافة مقادير من الملح والتوابل المطحونة، ثم إضافة الزيت وحفظ الهريسة في علب محكمة الغلق، يفضل أن تكون بلورية في درجات حرارة منخفضة.

للهريسة وظائف علاجية، فهي تخفف من الالتهابات في الجسم، كما تعد أكبر مقاوم للزكام الذي ينتشر بكثرة في فصل الشتاء، وتساعد على حرق الدهون وتعزّز الدورة الدموية وتخفّض مستوى السكر في الدم وتقي من سرطان البروستات.

وتحتفل مدينة نابل التونسية، شمال تونس العاصمة، عاصمة الهريسة، بتنظيم مهرجان سنوي للاحتفال بعيد الهريسة والفلفل للتعريف بها.

ويخزن الأهالي كميات مهمة منها على مدار العام، وهو ما يعرف بـ”العولة”، أي إعداد مكونات غذائية مختلفة في موسمها وتخزينها لتبقى صالحة لفترة طويلة، وتُستهلك يوميًا، ويتوفر 34 صنفًا ضمن القائمة الرسمية للفلفل، أشهره “البقلوطي” و”البلدي”. والهريسة ليست أكلة مستقلة وتقدم لذاتها بل هي مكون يضفي على الأكلات نكهة حارة ومميزة.

تاريخ الهريسة

حين سقطت غرناطة (897هـ/1492)، هاجر الأندلسيون إلى بلاد المغرب، ومنها تونس، هربًا من التنصير، ورحَلت السفن الإسبانية أكثر من 80 ألف مهاجر وصلوا على دفعات متتالية، من بينهم تجار وفلاحون وصناعيون.

استقر الموريسكيون في البلاد التونسية في عدة مناطق، ومنها شمال شرقي تونس. طوّر الفلاحون وسائل الري وأقاموا السدود والقنوات وحفروا الآبار، واهتموا بالزراعات ومنها زراعة الفلفل الذي ينحدر من الشرق الأقصى، وخاصة الهند والصين.

وظل الاعتقاد سائدا أن زراعة الفلفل دخلت تونس بعد وصول الأندلسيين إلى تونس بداية القرن الـ17، وساهم العرب الأندلسيون في نشر هذه الزراعة في المدن التي أقاموا بها.

لكن الباحثة بالمعهد الوطني التونسي للتراث والمختصة في المعالم المائية للفترة القديمة، المسؤولة عن المواقع الأثرية بولاية منوبة منية عديلي، قدمت طرحا بنته على الأرضية الفسيفسائية المكتشفة منذ أوائل شهر أيلول/ سبتمبر2020 في منطقة فرنة بمعتمدية برج العامري شمال تونس، وهذا الاكتشاف، قد تقلب موازين تاريخ بأكمله، يتعلق بنبتة الفلفل.
مجسمات اللوحة الفسيفسائية، التي يرجح أنها أرضية مطبخ روماني، أو قاعة أكل بالمعلم الأثري، تظهر حبات الفلفل في الرسوم، التي تؤكد ظهور نبات الفلفل في تلك الفترة من العهد الروماني، حيث يعود تاريخ اللوحة حسب الباحثة إلى ذلك العهد، ويرتبط وجودها بالرومان في تونس، ما بين 146قبل الميلاد و431 ميلادي.

وتضمنت الزخارف والنقوش أشكالا وصورا تحاكي الأزهار والغلال والخضر، ومنها الفلفل الذي يجمع المؤرخون وفق تعبير الباحثة منية عديلي، على أن تاريخ دخوله إلى أوروبا يعود لنهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، بعد اكتشافه من قبل الرحالة كريستوف كولومبوس في رحلة اكتشاف أمريكا، وإحضاره إلى اسبانيا لتنتشر زراعته في كامل أنحاء أوروبا.

وجود مجسم للفلفل جعلها تطرح العديد من الأسئلة حول تاريخ الفلفل بشمال أفريقيا، وحقيقة أصول النبتة، متسائلة: إذا كان الفلفل أمريكيا، فكيف يفسر تجسيمه بفسيفساء رومانية تسبقه تاريخيا بقرون من الزمن؟

“الهريسة” مكون من مكونات الأكلات التونسية، ظهر الحديث عنها لدى الجمهور التونسي المواكب لفعاليات كأس العالم في الدوحة، باعتباره مكونا لهوية شعب.

ومن الغريب أن هذه الأكلة التي لا تكاد تغيب عن أي طعام، لا نجد لها أي صدى في الأمثال التونسية، وحتى الأغاني لم نعثر لها عن حضور فيها سوى أغنية الفنان الراحل محمد الجراري. ولولا الإعلان الذي يبث هذه الأيام كدعاية لإحدى ماركات الهريسة، لظلت في طي النسيان ” متاكلة ومذمومة ” كما يقول المثل التونسي. ومن حسن الحظ أن شعار الإعلان كان “قُوٌتنا في هريستنا”.

إن كان الإعلان يقصد قطع الطريق على تزييف “إسرائيل” للتاريخ فقد صدق.

المصدر: عربي 21