عبير شمص
في عالم مليء بالتحديات والصراعات، تتصارع ثقافتان متناقضتان: ثقافة الاستسلام والهزيمة، وثقافة المقاومة والصمود. الأولى تمثل حالة من العجز والقبول بالواقع، حيث تكتفي المجتمعات بالنظر إلى الأحداث من منظور السلبيات، مما يؤدي إلى تفشي الإحباط وفقدان الأمل في التغيير. تلك الثقافة تُشبه «العين التي لا تقاوم المخرز»، فتُفقد الأفراد قدرتهم على الحلم والعمل من أجل مستقبل أفضل. بالمقابل، تبرز ثقافة المقاومة كفلسفة حياة تعتمد على الفعل والوعي. إنها تدعو إلى مواجهة التحديات بشجاعة، وتعزز من روح التضامن والتعاون بين الأفراد. تتطلب هذه الثقافة أدوات فعالة، مثل التعليم والتوعية، لتعزيز الوعي الذاتي والجماعي، وتفعيل الطاقات الكامنة في المجتمعات. في هذه المقابلة، سنغوص في عمق هذه الثقافات المتصارعة، نستكشف جذورها وأسباب تواجدها، ونبحث في سبل تعزيز ثقافة المقاومة والصمود كوسيلة فعالة للتغيير، سنستعرض أيضًا تجارب ملهمة من مختلف أنحاء العالم تُظهر كيف يمكن للأفراد والمجتمعات أن يتحرروا من قيود الاستسلام، ويعيدوا كتابة قصصهم عبر الإرادة والتصميم، وذلك مع الخبير التربوي والسياسي اللبناني الدكتور ماجد جابر، وفيما يلي نص الحوار:
في المقابل، تجسد ثقافة الاستسلام حالة من الانهزام والانسحاب النفسي والاجتماعي، وتعكس حالة من العجز والقبول بالواقع المرير إذ يستسلم الأفراد للواقع، وينظرون إليه بعين الشك والقلق. هذه الثقافة تتأسس على فكرة العجز، وتؤدي إلى فقدان الأمل في التأثير، وغياب الرغبة في التغيير، والعزلة والانطواء، والتقاعس وغياب المبادرة لحل المشكلات، والنظرة السلبية تجاه الذات والواقع، مما يُعزز من مشاعر الإحباط والركود، ويُدمر الثقة بالنفس، وبالتالي تُعد بمثابة عقبة نفسية واجتماعية تُعيق التقدم وتُدمر الطموح.
في ضوء تعريف الثقافتين يتضح الفرق بينهما في ستة جوانب رئيسية: فمن ناحية الإرادة والفعل، تُجسد ثقافة المقاومة إرادة قوية للتغيير، بينما تعكس ثقافة الاستسلام حالة من العجز والقبول، أما من ناحية التضامن مقابل العزلة فتُشجع ثقافة المقاومة على التعاون والتضامن، بينما تؤدي ثقافة الاستسلام إلى العزلة وفقدان التواصل، ومن ناحية الأمل مقابل اليأس، تروج ثقافة المقاومة للأمل والرغبة في تحسين الظروف، في حين تُعمق ثقافة الاستسلام مشاعر اليأس وفقدان الثقة، ومن ناحية التعلم والنمو مقابل الركود الفكري: تركز ثقافة المقاومة على التعلم المستمر والنمو الشخصي والاجتماعي، بينما تعكس ثقافة الاستسلام حالة من الركود الفكري والاجتماعي،وكذلك من ناحية المبادرة فهي تحفز ثقافة المقاومة على إيجاد مبادرات فاعلة لمواجهة التحديات، بينما تقوض ثقافة الاستسلام أي رغبة في التغيير، أما من ناحية النظرة العامة للذات والمستقبل، فإن ثقافة المقاومة تتطلع اليهما نظرة إيجابية طامحة ومتفائلة، على عكس ثقافة الاستسلام الغارقة في التشاؤم والسلبية.
إن فهم الاختلاف بين ثقافة المقاومة وثقافة الاستسلام يُعتبر أمرًا حيويًا في مواجهة التحديات المعاصرة. بينما تسعى ثقافة المقاومة إلى بناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة الأزمات، ثقافة الاستسلام تُعيق الروابط الإنسانية وتُفشي الإحباط. لذا، فإن تعزيز ثقافة المقاومة والصمود يُعتبر خطوة أساسية نحو تحقيق التغيير الإيجابي وبناء مستقبل يُعزز من كرامة الإنسان ويُعيد له الأمل في الحياة. إن هذا التحول يتطلب جهدًا جماعيًا ووعيًا جماعيًا، من أجل بناء عالم يسوده العدل والحرية.
أسباب ودوافع كلا الثقافتين
دوافع ثقافة المقاومة والصمود
يعتبر الدكتور جابر بأنه يشكل الشعور بالظلم والاضطهاد دافعًا قويًّا للمقاومة من قبل الأفراد، ويُحفزهم على التمسك بحقوقهم السياسية، والاجتماعية، و الثقافية. على سبيل المثال، الشعب الفلسطيني يُظهر مقاومة مستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي من خلال الانتفاضات أو الكفاح المسلح، حيث يُعتبر الظلم دافعًا رئيسيًا لمطالبته بالحرية، واستعادة أرضه، كما أن تاريخ النضال للشعوب والتي خاضت نضالات ضد الاستعمار أو الطغيان، غالبًا ما تُبني هويتها وذاكرتها الجماعية على قيم المقاومة والصمود، الأمر الذي يُشكل مصدر إلهام ودافع مستمر للأجيال الجديدة للاستمرار في الكفاح من أجل العدالة والحقوق والقضايا المصيرية، أضف إليه، أن ارتفاع منسوب الوعي الاجتماعي والسياسي للشعوب، والذي يتم عادة عبر التوعية والتعليم، يُعزز وعيهم بحقوقهم وبالتاريخ الاجتماعي والسياسي لمجتمعاتهم ، والمخاطر المحدقة بهم، مما يُحفزهم على المقاومة، إذ ساهم زيادة الوعي بالحقوق في جنوب أفريقيا على سبيل المثال إلى مقاومة نظام الفصل العنصري. هذا، ويخلق التضامن الاجتماعي شعورًا بقوة الوحدة ويعزز من فرص النجاح في المقاومة ودافعًا لها، إلى جانب بعض الدوافع المرتبطة بالرغبة في التغيير الإيجابي وتحقيق الآمال والطموحات في حياة ومستقبل أو وطن أفضل، وتُحفز الأفراد على العمل نحو التغيير كالقيام بثورات محقة للتحرر من الأنظمة الاستبدادية، كما حدث في الثورة الإيرانية ضد ظلم حكم الشاه”.
دوافع وأسباب ثقافة الإستسلام
يشير الدكتور جابر إلى أنه في المقلب الآخر ثمة دوافع متعددة تكون خلف ثقافة الاستسلام والارتهان لها مثل الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للمجتمعات، إذ أن المعاناة المستمرة من الفقر والبطالة غالبًا ما تُظهر استسلامًا للواقع، حيث يُصبح الأفراد غير قادرين على رؤية أي أمل في تحسين ظروفهم، أضف اليه تأثير الضغوط النفسية التي يمكن أن تؤدي إلى الاستسلام والشعور بالعجز عن مواجهة التحديات. كما أن فقدان أو تآكل الثقة في الحكومات ومؤسساتها وعدم فعاليتها ، يدفع المواطنين إلى إلى الاستسلام والشعور بالعجز، على سبيل المثال، العديد من الدول التي شهدت فسادًا مؤسسيًا، ، شهدت تراجعًا في قدرة الأفراد على التفاعل وإحداث التغيير. هذا فضلًا عن الشعور بالعزلة الاجتماعية وفقدان الدعم الاجتماعي، يجعل الأفراد يميلون إلى الاستسلام والانسحاب، كما هو الحال في المجتمعات التي تعاني من فقدان الروابط الاجتماعية، مثل بعض المناطق الحضرية الكبيرة، يشعر الأفراد بالوحدة ويصبحون أقل استعدادًا لمواجهة التحديات. أن التجارب السلبية السابقة، أو المحاولات لفاشلة الفاشلة نحو التغيير، سواء من المجتمعات أو الأفراد، أو الحركات الاحتجاجية التي لم تُحقق أهدافها، قد تؤدي لليأس، وقد يشعر الأفراد بالإحباط ويصبحون أقل ميلاً للمشاركة في أي كفاح مستقبلي بحيث يُصبحون أقل استعدادًا للقتال من أجل حقوقهم، مما يعزز من ثقافة الاستسلام عندهم.
ومن أساليب واستراتيجيات تعزيز ثقافة المقاومة والصمود أيضًا، هو أسلوب تعزيز التضامن الاجتماعي عبر بناء شبكات دعم عبر منظمات المجتمع المدني كتأسيس جمعيات ومنظمات لتعزيز الروابط الاجتماعية وتوفير الدعم للأفراد، وإقامة فعاليات مجتمعية لتعزيز الفهم المتبادل والتضامن بين أفراد المجتمع، وتشجيع المشاركة في الأنشطة التطوعية لتقوية روح التعاون والعمل الجماعي، مثل حملات توزيع المساعدات، فضلاً عن تقديم الدعم للمحتاجين من خلال دعم الفئات الضعيفة وتقديم المساعدات الغذائية أو الصحية لها، كما ويلعب التمكين الاقتصادي لأفراد المجتمع دورًا هامًّا في تعزيز ثقافة المقاومة عبر توفير فرص العمل وتقديم التمويل والدعم، والمساعدة التقنية للمشاريع الصغيرة التي تعزز من القدرة الاقتصادية للأفراد، وتوفير التدريب المهني لهم عبر تنظيم برامج تدريبية لتعليم المهارات المطلوبة في سوق العمل، وتعزيز مهارات الابتكار لديهم عبر ورش عمل في ريادة الأعمال، وخلق بيئة تشجع على الابتكار والإبداع مما يُمكّن الأفراد من تحسين أوضاعهم الاقتصادية.
كما ويلعب التمكين الاقتصادي لأفراد المجتمع دورًا هامًّا في تعزيز ثقافة المقاومة من خلال توفير فرص العمل وتقديم التمويل والدعم، والمساعدة التقنية للمشاريع الصغيرة التي تعزز من القدرة الاقتصادية للأفراد، وتوفير التدريب المهني لهم عبر تنظيم برامج تدريبية لتعليم المهارات المطلوبة في سوق العمل، وتعزيز مهارات الابتكار لديهم عبر ورش عمل في ريادة الأعمال، وخلق بيئة تشجع على الابتكار والإبداع مما يُمكّن الأفراد من تحسين أوضاعهم الاقتصادية.
هذا ويعد التشجيع على المشاركة السياسية من الاستراتيجيات الضرورية لتعزيز ثقافة المقاومة وعدم الاستسلام، كالمشاركة في الانتخابات مثلاً، حيث يمكن تحقيق ذلك عبر تقديم دورات في العلوم السياسية، وتنظيم حملات توعية تُشجع المواطنين على المشاركة الفعالة في الانتخابات المحلية والوطنية، وتوفير معلومات واضحة حول كيفية التصويت وأهمية المشاركة السياسية، ودعم المرشحين القائمين على قيم المقاومة أو المرشحين الذين يتبنون قيم العدالة والحرية، مما يُعزز من ثقافة المقاومة.
أما ثقافة الموت في سياق المقاومة، أو ما يعرف بالشهادة، فهي تُعد وفق الدكتور جابر بمثابة التضحية من أجل القضايا الإنسانية الكبرى، إذ يُنظر إلى الشهادة كرمز للشجاعة والإيمان، وترتبط بمواجهة الاحتلال وتحدي الظلم، إذ يُعتبر الشهداء رموزًا للبطولة والتضحية والكرامة.أمّا لجهة العلاقة بين الثقافتين، فيراها الدكتور جابر علاقة تكامل وليس تعارض، إذ يُنظر إلى الشهادة في ثقافة المقاومة كجزء من ثقافة الحياة، والشهداء هم أبطال يُضحون من أجل رفعة وطنهم ومجتمعهم ، فهل يعتبر سيد شهداء الأمة السيد حسن نصرالله ميتًا، أم شهيدًا حيّا في وجدان وذاكرة الأمّة، تشكل شهادته أساسًا متيناً لبناء مجتمع مقاوم، رافض للظلم والهوان والعيش الكريم على مدى أجيال لاحقة، وبالتالي تُعزز هذه الثقافة من إيمان الأفراد بأهمية النضال من أجل حياة أفضل، كما أن ثقافة المقاومة، رغم تركيزها على الشهادة، تدفع الأفراد إلى العمل من أجل تحقيق حياة كريمة، إذ تبرز أهمية النضال من أجل الحرية والعدالة. ففي المجتمعات التي تعيش تحت الاحتلال، يُعتبر الشهداء رمزًا للكرامة، وتُعزز من قيم التضحية والإيثار وتصبح الشهادة جزءًا من الهوية الوطنية، مما يُعزز من روح الفخر والانتماء”.
يلفت الدكتور جابر إلى أمثلة تاريخية على التكامل بين ثقافة الحياة والموت في سياق المقاومة (الشهادة)، على سبيل المثال الثورة الجزائرية لمقاومة الاستعمار الفرنسي، واجه المجاهدون الاستعمار الفرنسي بتضحيات كبيرة. الشهداء الذين سقطوا في المعركة أصبحوا رموزًا للحرية، مما ألهم المجتمع لمواصلة النضال من أجل الاستقلال، الذي يُعتبر جزءًا أساسيًا من ثقافة الحياة، وكذلك في انتفاضة الشعب الفلسطيني، يُعتبر الشهداء مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهم رموزًا للمقاومة. عززت قصصهم من روح النضال لدى الأجيال الجديدة، وهذا ما ظهرت تجلياته في عملية “طوفان الأقصى”، وكذلك تضحيات المقاومين في لبنان، التي منحت شهادتهم تحريًرا لبلدهم عام 2000، مما يُظهر كيف يمكن أن تكون الشهادة دافعًا لتحقيق حياة أفضل. ونستذكر في المجتمعات الأخرى مارتن لوثر كينغ جونيور الذي كان رمزًا للمقاومة السلمية، حيث دعا إلى المساواة والعدالة. لم يكن يتحدث فقط عن الشهادة بل عن أهمية العيش بكرامة. ومنذ اغتياله في عام 1968 أصبح رمزًا للتضحية من أجل حقوق الإنسان، مما دفع الكثيرين لمواصلة النضال من أجل العدالة، وكذلك المقاومة الفيتنامية وغيرها من المقاومات.
وهكذا يتضح أن هناك تكاملاً بين ثقافة الحياة وثقافة الموت في سياق ثقافة المقاومة. الشهادة ليست تعارضًا للحياة، بل هي تعبير عن الالتزام بالقيم الإنسانية والعدالة. تعزز ثقافة المقاومة من أهمية النضال من أجل حياة حرة كريمة، مما يجعلها جزءًا من الوجود الإنساني. في النهاية، يُعتبر المجاهدون والشهداء رمزًا للإصرار والتحدي، ويُعزز وجودهم من إيمان الأفراد بأهمية الحياة الكريمة التي تستحق النضال من أجلها.
الخسائر والدمار ليسا سبباً للإنهزام
يعتبر الدكتور جابر إلى أن ثقافة الاستسلام ظاهرة معقدة تتأثر بعوامل متعددة، وغالبًا ما يُستخدم مبررات مثل القوة التدميرية والأذى اللاحق بالناس وأرزاقهم لتبرير هذه الثقافة. في هذا السياق، نجد أنه من المهم تحليل هذه التبريرات وفهم آثارها على المجتمعات.
لا شك أن القوة التدميرية لديها تأثير قوي على المجتمع، إذ عندما تتعرض المجتمعات لتهديدات فعلية مثل الحروب أو الاحتلال، قد يؤدي الشعور بالخوف من العنف إلى تقويض روح المقاومة، ويجعل نسبة من أفراد المجتمع يميلون إلى الاستسلام اعتقادًا منهم أن ذلك سيوفر لهم الأمان. كما أن العواقب النفسية للقوة التدميرية يمكن أن تؤدي إلى حالات من القلق والاكتئاب، مما يضعف جزء من الإرادة الجماعية للنضال ويجعل الأفراد يشعرون بالعجز. وينطوي الأمر نفسه على تأثير الأذى اللاحق بالأرزاق وتدمير الممتلكات والبنية التحتية، مما يُعزز من الإحساس بالعجز، وثقافة الاستسلام لدى شريحة من أفراد المجتمع. إلاّ أن كل ما تقدم لا ينبغي أن يكون مبررًا إذا ما أرادت الشعوب النهوض، ومواجهة الصعوبات، والبقاء راسخة في حياة كريمة وشريفة. فالمقاومة ينبغي أن تكون الرد السريع لكل العوامل الدافعة للاستسلام، خصوصًا أن التاريخ مليء بأمثلة عن حركات مقاومة نجحت في تحقيق التغيير رغم التدمير والأذى بالأرزاق والبشر لبلدانها، ثم عادت شعوبها ونهضت وأصبحت من أرقى المجتمعات، وفي تحقيق العدالة والحرية. فالارتهان للشعور بالاستسلام سيؤدي إلى العديد من العواقب الاجتماعية والسياسية وعدم القدرة على تحقيق التغيير، حيث يتجذر الظلم في المجتمع، فضلًا عن فقدان الهوية الثقافية والوطنية، مما يُضعف الروابط الاجتماعية. كما ان الاستسلام قد يُعزز من استمرار الدورات التاريخية للعنف.
وعليه، في الوقت الذي قد يُعزى الاستسلام إلى الخوف من القوة التدميرية والأذى الذي يلحق بالأفراد، يجب أن نُدرك أن المقاومة هي الخيار الذي يُعيد الأمل ويحقق التغيير لبناء مجتمع قوي وقادر على مواجهة التحديات من أجل بناء مستقبل أفضل.
إخضاع العقل العربي
يؤكد الدكتور جابر بأن المجتمعات العربية تواجه تحديات كبيرة، إذ يسعى بعض الأفراد أو الجماعات إلى تعزيز ثقافة الاستسلام أو الانهزامية. هذه المحاولات تهدف إلى إخضاع العقل العربي وإضعاف الروح المقاومة، من خلال اللجوء الى عدة طرق تُستخدم لتحقيق ذلك. ومن هذه الطرق تقصد ترويج الإحباط واليأس عبر الإعلام السلبي مثل نشر الأخبار والأحداث السلبية فقط، مثل الأزمات والحروب، مما يُعزز من شعور الإحباط واليأس لدى الناس، وتكرار الرسائل السلبية عن الفشل والعجز لإضعاف روح المقاومة وجعل الأفراد يشعرون بأن تغيير الوضع الحالي مستحيل.
كما يلجأ أصحاب هذه الثقافة إلى استغلال الظروف الاقتصادية كأداة لنشر ثقافة الاستسلام، وإظهار أن النضال لن يُجدي نفعًا في ظل الأوضاع الراهنة، إلى جانب تعمدهم من تقليل أهمية الهوية الوطنية والتراث الثقافي من أجل خلق شعور الفقدان بالانتماء وحب الوطن لدى المواطنين، والترويج للثقافات الأجنبية الأخرى على حساب الثقافة المحلية، تحت مسميات ومبررات الانفتاح، وذلك لإضعاف الروح الوطنية، هذا فضلاً عن دأبهم على تعزيز الانقسام الداخلي عبر إثارة الفتن الطائفية والعرقية و التحريض على الانقسامات الداخلية لجعل المجتمعات ضعيفة، مما يُسهل السيطرة عليها، وتسويق فكرة القوة المطلقة للخصم وتضخيمها على أنه لا يُقهر، لتعزيز الإحساس بالعجز، والترويج لتاريخ الهزائم السابقة في الصراعات، مما يُعزز من شعور اليأس والاستسلام وعدم جدوى المقاومة.
كما يحرص أصحاب الثقافة الانهزامية، عن سابق تخطيط وإصرار، على إضعاف الشعور بالأمل لضرب الروح المعنوية للشعوب إلى جانب التلاعب بالخطاب السياسي عبر استخدام اللغة المحبطة التي تُعزز من الاستسلام، مثل “لا جدوى من النضال” أو “لا يمكن تغيير الوضع،” والترويح لفكرة أن المساومة أو التفاوض هو الحل الأفضل، وتشويه الحقائق في الأزمات السياسية كي يقال إن الوضع الراهن هو الأفضل في ظل الظروف الحالية، إضافة إلى تأصيل ثقافة الخوف من خلال التركيز على العنف والعواقب السلبية للنضال واستخدام التحذير من الفوضى كوسيلة لإقناع الناس بأن الاستسلام هو الخيار الأكثر أمانًا، واستخدام الشائعات لتضخيم حالات العنف أو الفوضى، مما يُعزز من الإحساس بعدم الأمان ويجعل المقاومة تبدو كخيار غير مستحب.
وأيضا يلجأ أصحاب هذه الثقافة الى استغلال الأزمات والضغوط النفسية للمواطنين لإقناعهم بأن الاستسلام هو الخيار الأفضل. على سبيل المثال، في بعض الدول، يعاني الكثيرون من آثار نفسية ناجمة عن النزعات والتسلط والديكتاتورية والحروب، مما يجعل المقاومة تبدو كخيار غير واقعي، الى جانب تعزيز الشعور بالعجز والتركيز على الفشل الفردي، مثل البطالة والفقر، مما يُعزز من الإحساس بالعجز وأن الجهود الفردية لن تُحدث تغييرًا ويُقلل من الدوافع للنضال.
إذن، تتعدد الطرق التي يُحاول بها أصحاب الثقافة الانهزامية إخضاع العقل العربي للاستسلام، عبر نشر الإحباط، وتجريد الهوية، وتصوير القوة المطلقة للخصم، والتلاعب بالخطاب السياسي. ولكن من الضروري أن يُدرك الأفراد هذه المحاولات وأن يسعوا لتعزيز ثقافة المقاومة والأمل والصمود ومواجهة التحديات لتحقيق التغيير الإيجابي.
سكوت عربي مطبق
يعتبر الدكتور جابر أن سكوت الشعوب العربية عن دعم غزة ولبنان أثناء الحروب الإسرائيلية ظاهرة معقدة ترتبط بمجموعة من العوامل النفسية، الاجتماعية، والسياسية. يمكن فهم هذا السكوت على أنه نتيجة وجود مزيج من ثقافة الاستسلام وثقافة الخوف، بالإضافة إلى عوامل أخرى تلعب دورًا في تشكيل ردود الفعل الشعبية. يمكن أن نركن السبب الرئيس للسكوت إلى تفشي ثقافة الاستسلام الناجمة عن الإحباط من الفشل السياسي لبلدان هذه الشعوب، وتراجع الروح الوطنية والقومية لديهم، إلى جانب الشعور بالعجز وعدم القدرة على التأثير، وأن دعمهم لن يُحدث فرقًا حقيقيًا في الوضع على الأرض، وأن فكرة النضال لن تُجدي نفعًا، مما يدفع الأفراد إلى الامتناع عن المشاركة في تقديم الدعم، هذا بالإضافة إلى وجود فجوة كبيرة بين الحكومات والشعوب، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في قدرة الحكومات على الاستجابة لاحتياجات الشعب في دعم القضايا العربية، وارتهان هذه الحكومات للإملاءات الأميركية والإسرائيلية وتقديم التعاون والدعم لها، وذلك للحفاظ على أنظمتها والبقاء في السلطة .
كما تعتبر ثقافة الخوف من العوامل التي تدفع الشعوب بالإحجام عن دعم غزة ولبنان، إذ يخشى المواطنون في بعض الدول العربية من العواقب الأمنية للانخراط في دعم المقاومة، سواء كانت هذه العواقب تتعلق بالاعتقالات أو التهديدات من الأنظمة الحاكمة. في بعض الدول، يُعتبر التعبير عن الدعم لفلسطين أو لبنان أمرًا غير مقبول، مما يُعرض الأفراد للمساءلة والسجن، إضافة إلى الخوف من الاستهداف أو التعرض للانتقام من السلطات أو الجماعات المناهضة للدعم، مما يُثني الناس عن التعبير عن آرائهم، خصوصًا في ظل الرقابة والقيود الصارمة على حرية التعبير، حيث يُعتبر استنكار أو إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان أو فلسطين ذلك تحديًا للسلطة أو للمسلمات الاجتماعية في هذه الدول.
كما إن هناك ثمة عوامل إضافية تؤثر على سكوت الشعوب في تقديم الدعم مثل الانشغال بالشؤون المحلية والأزمات الداخلية مثل الفقر والبطالة والفساد، مما يجعل الناس يركزون على مشكلاتهم الشخصية أكثر من القضايا الخارجية، مما يجعل دعم غزة أو لبنان في نظرهم مسألة ثانوية. كما أن تأثير الأزمات الاقتصادية تُعزز من إحساس الناس بعدم القدرة على المساهمة، إذ ينشغل الأفراد بتأمين احتياجاتهم اليومية، إلى جانب التغطية الإعلامية غير الكافية للأحداث في غزة ولبنان، مما يُقلل من التعاطف الشعبي، أو استخدام الإعلام لتأطير الصراع بطريقة تُقلل من أهمية الدعم، وتصوير الصراع على أنه مسألة سياسية بدلاً من كونه قضية إنسانية عربية وقومية.
دور الأنظمة العربية في نشر ثقافة الاستسلام
تُعتبر ثقافة الاستسلام والخوف من الظواهر المعقدة التي تؤثر على المجتمعات العربية، وهي نتاج تفاعل ديناميات عدة، تشمل سياسات الأنظمة الحاكمة، دور النخب الثقافية والاقتصادية، وأيضًا تأثير العدو الصهيوني، وفق الدكتور جابر. وتبرز مسؤولية الأنظمة العربية عبر أساليب القمع وتقييد الحريات كوسيلة للحفاظ على السلطة، ومنع الأفراد من التعبير عن آرائهم أو دعم قضاياهم، واعتقال المعارضين وذلك لتكريس ثقافة الخوف، إلى جانب فرض القيود الصارمة على وسائل الإعلام في التغطية الإعلامية لقضايا العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان، بهدف تعزيز صورة العجز وتقليل الوعي الجماهيري. وتبرز مسؤولية الأنظمة العربية أيضًا عبر إهمال القضايا العربية، لا سيما تخلي الحكومات عن القضية الفلسطينية بعد اتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، مثل معاهدة كامب ديفيد، فضلًا عن التعاون السري مع هذا العدو في بعض الحالات لإضعاف موقف المقاومة وجعل الأفراد يشعرون بأن النضال غير مجدٍ، إلى جانب ممارسة الاستبداد السياسي من قبل بعض الأنظمة العربية لتعزيز الإحباط لدى الجماهير عبر عدم السماح بالمشاركة السياسية الفعالة.
أما دور النخب الثقافية والسياسية فيكمن في تأثيرها على تشكيل الرأي العام عبر تبني الخطاب السلبي المعزز لثقافة الاستسلام، إذ نجد أن بعض النخب تروج لفكرة أن المقاومة ليست خيارًا واقعيًا، فضلًا عن فشل هذه النخب في القيادة في استثمار قوتها في دعم القضايا العربية، لانشغالها بمصالحها الخاصة، مما يُضعف الروح الجماعية.
كما يمكن أن نرصد ارتباط كثير من النخب الاقتصادية بمصالح مع الأنظمة الحاكمة، مما يجعلها تفضل الحفاظ على الوضع الراهن بدلاً من دعم المقاومة. هذه المصالح تُعزز من ثقافة الاستسلام، إذ يُفضل الأفراد الحفاظ على مكاسبهم على الانخراط في النضال.
أما دور العدو الصهيوني فإنه يتمظهر عبر اللجوء إلى القوة العسكرية والاحتلال كوسيلة للسيطرة، مما يُعزز من ثقافة الخوف، والتصعيد المستمر في الهجمات التدميرية والإرهابية على غزة أو لبنان، خصوصًا في أيامنا هذه، هو لإخافة الناس وجعلهم يشعرون بأن المقاومة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، مثل فقدان الحياة أو الممتلكات، وتدمير الأمل بين الناس لإشعارهم بالعجز واليأس بهدف نشر ثقافة الاستسلام بين الفلسطينيين والعرب. كما يعمد العدو الصهيوني على استغلال وإثارة الانقسامات الداخلية وتعزيز الفتن الطائفية أو السياسية، وذلك لقتل الروح الجماعية التي تُعزز المقاومة، إذ يُظهر التاريخ أن العدو الإسرائيلي قد استغل التوترات بين الفصائل الفلسطينية لتعزيز انقسامها من أجل ضرب القضية الفلسطينية وتوسيع السياسات الاستيطانية، إلى جانب التأثير على الخطاب العربي والفلسطيني وتوجيهه نحو هذه الانقسامات، من أجل تركيز النقاشات الفلسطينية والعربية على الخلافات الداخلية بدلاً من مواجهة الاحتلال.
يمكن القول إن ثقافة الاستسلام والخوف في المجتمعات العربية هي نتاج تفاعل معقد بين سياسات الأنظمة العربية، دور النخب، واستراتيجيات العدو الصهيوني. تسهم الأنظمة في تعزيز هذه الثقافة بواسطة القمع وتقييد الحريات، بينما تلعب النخب دورًا مهمًا في تشكيل الرأي العام. من جهة أخرى، يعمل العدو الصهيوني على تعميق هذه الثقافة عبر استخدام القوة العسكرية واستغلال الانقسامات.
تعزيز حركات المقاومة الهوية الوطنية
يعتبر الدكتور جابر بأن حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، مثل حزب الله وحماس، فاعلة في سياق الصراع العربي-الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن تقييم نجاحها في نشر وتعزيز ثقافة الصمود والمقاومة يتطلب تحليلًا موضوعيًا للنجاحات والإخفاقات، بالإضافة إلى ما يجب أن تقوم به هذه الحركات لتعزيز تأثيرها. يمكن القول إن حركات المقاومة نجحت في تعزيز الهوية الوطنية حيث أوجدت شعورًا بالانتماء والتضامن بين المواطنين. في فلسطين ولبنان، فقد زادت حركة حماس من شعور الفلسطينيين بالوحدة في مواجهة الاحتلال، بينما ساهم حزب الله في تعزيز الهوية اللبنانية عبر المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، هذا إلى جانب تحقيق انتصارات عسكرية مثل انتصار حزب الله في حرب 2006، الذي ساهم في تعزيز شعور الفخر والكرامة لدى اللبنانيين حيث تعد هذه الانتصارات نماذج ورموزًا للصمود في وجه الاحتلال، كما يُسجل لحركات المقاومة نجاحها في بناء مؤسسات اجتماعية لتقديم خدمات في مجالات التعليم والصحة، مما ساعد في تحسين الظروف المعيشية لبعض المجتمعات، خاصةً في لبنان
في المقابل، يُسجل على بعض حركات المقاومة إخفاقها في معالجة بعض التحديات مثل مسألة الانقسام والتنافس الداخلي مع بعض الفصائل أو الأحزاب، مما يُضعف من جهود بناء ثقافة موحدة للصمود، إذ أن التنافس السياسي يؤثر سلبًا على فعالية المقاومة ويُعزز من الفوضى، إلى جانب التقصير أحياناً في توفير بنية تحتية اجتماعية واقتصادية قوية للبيئة الحاضنة أو المجتمعات التي تنتمي اليها.
وبالتالي، ينبغي على حركات المقاومة العمل الدائم على تعزيز الوحدة الوطنية وتجنب الانقسامات السياسية والطائفية الحادة لبناء جبهة موحدة أو متضامنة تدعم ثقافة الصمود. كما يتوجب عليها تفعيل الدور الإعلامي عبر استخدام وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ فعّال لنشر رسالتها وتعزيز ثقافة الصمود، وتطوير محتوى إعلامي يعكس معاناة الشعب ويُظهر انتصارات المقاومة، لتعزيز الوعي العام، فضلًا عن تطوير خطاب مقاوم متنوع وشامل يتناسب مع تطلعات الناس، إلى جانب تعزيز الخطاب الثقافي والفني المقاوم ، وتطوير استراتيجيات المقاومة القائمة على الابتكار، والمتناسبة مع التغيرات السياسية والاجتماعية، والاستفادة من التجارب السابقة، إلى جانب دعم التعليم والتثقيف والتدريب على مفاهيم المقاومة والصمود.