بقلم الكاتبة نجوى الموسوي
التاريخ مليء بالأخطاء. قال خالي أمس. كنا نقف على أنقاض من المباني المدمّرة في شارعنا البيروتي العريق. حاول مناقشتي. أجبتُه: “لا وقت لديّ. بيتي كالتاريخ الآن مليء بالأخطاء أيضا!”.
أصابت الحجارة والتربة والحصى أثاثي وغطت أرض شقتي. كأنّ زلزالا مرّ هنا.
منذ أسبوع أجرف يوميا ركامًا وأكنس. وأشدّ ظهري بمشدّ طبي. أرمي شبابيك مكسورة وأخشابا مقطعة إلى موقف البناية كباقي السكان بانتظار نشاط البلدية لإزالة الأنقاض بعد وقف النار.
الكلمة تلحّ وتتردّد في “فيوزات دماغي”. “التاريخ مليء بالأخطاء”. لكنّي أبعدها كالبعوضة.
عليّ أن أصلح الأخطاء بدائرة شؤوني. لم أعلم أتلك من آثار أخطاء التاريخ بحقّي أم بما كسبت يداي؟ أهو طغيان اعتدى عليّ فقط أم ساهمت به بعدم لصق الزجاج أو الحذر؟
كل يوم أنصرف من معاينة البقايا إلى منطقة تبعد شمالاً مسافة نصف ساعة. هناك توجد غرفة لأخي فوق سطح والديّ. جهزتها بغاز واسفنجات وطنجرة وصحون وملاعق بعدد أفراد أسرتي. لا أعلم أهذا صحيح أم أخطأت إذ لم أستأجر شقة مفروشة؟ هل هو خطأ كبير أمام ضرورة توفير نفقاتٍ لزوجتي المجروحة في المشفى جراء الغارة المباغتة؟ ومن يعرف غير المُجرّب صعوبةَ إيجاد شقة في هذه الهدنة؟
وأعود. التاريخ مليء بالأخطاء، وحركاتي مليئة بالأخطاء وسط الدمار. أمشي نحو الشرفة المنهارة أصعد نحو السطح، أعالج توصيلات الكهرباء، ألملم الكراسي المهشمة. لا شيء في مكانه. أتحرك خبط عشواء.
برقٌ لمع ظهري، لقد ازداد منذ تبين أن اسفنجة نوم اشتريتُها مغشوشة، فاستخلصتها لنفسي وقاية لأطفالي. صارت ككرتونة تهبط بي فجوتُها ليلا فتتصلب عضلاتي ويرعد سعالي!
أستمرُّ، برغم الألم بسحب النفايات. لا يمكن أن توصَف بشاعة الفوضى وبشاعة الأخطاء. آخ من الأخطاء التي تستنزف الرأس.
طرق أحدهم لوحا خشبيّا مرميّا على جدار مدخل الشقة. بالمناسبة ما زلت أحاول معالجة قفل جديد للباب وتركيبه بدل النجّار! يا ليت البناية سقطت كلها. كان أسهل.
هذا جاري. سلام وكلام. يسألني: “لماذا تبدو خمسينيّا وأنت لم تتجاوز الثلاثين؟”. أضحك. وأخبره بهمومي. يخبرني بإجراءاته المكتوبة على ورقة لضمان سيطرته على همومه. أقرر بلحظة صفاء أن استفيد من خبرته كي لا أقع في أخطاء مكررة!
حين ودّعته شاكرا. قال: “يا ليت الأمة مثلك تستفيد من تجارب التاريخ! أتصدق؟ يا ليت المدينة كلها انهارت وافتدت ضياع فلسطين ومذابح أهالي غزة”..
وغادر متحسّرا. وهززتُ رأسي: التاريخ مُجدّدا!
وفجأة، وجدتني أشطف الثلاجة والردم لم يُرفع بعد فغصت في الوحل ووجع الجسم والعقل. هكذا عُدت أخطئ. ضاقت أوداجي. ضاق صدري. واحترازا من الاختناق صوّبت خرطوم الماء على وجهي وقلت: “التاريخ مليء بالأخطاء، فكيف نصحو من الارتباك؟”.