في ظل التطورات المتسارعة في العلاقات الدولية وتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية، تبرز قضية التعريفات الجمركية كأداة ضغط في العلاقات بين القوى العالمية. وفي هذا السياق، تُثير التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب تجاه الهند تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقات التجارية بين البلدين وتأثيرها على التحالفات الاستراتيجية في المنطقة.
صرح الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في 18 ديسمبر بنيته فرض “تعريفة جمركية مرتفعة” على الهند، متهماً نيودلهي بفرض رسوم جمركية على استيراد بعض المنتجات الأمريكية. وقال ترامب للصحفيين: “المعاملة بالمثل. إذا فرضوا علينا ضرائب، نفرض عليهم نفس المقدار. هم يفرضون علينا ضرائب، ونحن نفرض عليهم ضرائب.”
وأضاف: “عندما يرسلون دراجة وعندما نرسل لهم دراجة، يفرضون علينا 100 و200. الهند تفرض الكثير. البرازيل تفرض الكثير. إذا أرادوا أن يفرضوا علينا هذا سنفرض عليهم نفس الشيء.”
وفي تجمع انتخابي سابق، قال ترامب: “الهند فارضة رسوم كبيرة جداً. لدينا علاقة رائعة مع الهند. أنا كذلك. وخاصة القائد، مودي. إنه قائد عظيم. رجل عظيم. هو حقاً رجل عظيم. لقد جمع كل شيء معاً. لقد قام بعمل رائع. لكنهم على الأرجح يفرضون الكثير.”
أكد وزير التجارة الأمريكي القادم هوارد لوتنيك أن “المعاملة بالمثل” ستكون موضوعاً رئيسياً لإدارة ترامب، قائلاً: “الطريقة التي تعاملوننا بها هي الطريقة التي يجب أن تتوقعوا أن نعاملكم بها.”
توترات سابقة
خلال فترته الرئاسية الأولى، فرض ترامب تعريفات جمركية أعلى على الصلب والألمنيوم الهندي، مما دفع الهند إلى فرض رسوم انتقامية على المنتجات الأمريكية مثل اللوز والتفاح. وفي عام 2019، وصف ترامب الهند مراراً بأنها “ملك التعريفات الجمركية” واتهمها بفرض رسوم “مرتفعة بشكل هائل” على المنتجات الأمريكية. كما انتقد بشدة “الرسوم الجمركية الكبيرة” التي تفرضها الهند على منتجات الورق الأمريكية ودراجات هارلي-ديفيدسون الأيقونية.
تقارب هندي-روسي
في المقابل، تشهد العلاقات الهندية الروسية تطوراً ملحوظاً. فقد صرح وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ خلال لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو أن الصداقة بين بلديهما “أعلى من أعلى جبل وأعمق من أعمق محيط.”
وقد تجلى هذا التقارب في عدة مظاهر:
– وافقت شركة النفط الروسية الحكومية روسنفت على أكبر صفقة طاقة في تاريخها مع الهند.
– تشمل الصفقة توريد 500 ألف برميل من النفط الخام يومياً لمصفاة ريلاينس الهندية الخاصة لمدة 10 سنوات، بقيمة تقدر بحوالي 13 مليار دولار.
– في يوليو، تجاوزت الهند الصين لتصبح أكبر مشترٍ للنفط الروسي، وهي ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم.
– حضر أكثر من 700 ممثل تجاري منتدى الحوار التجاري الهندي الروسي الخامس عشر في موسكو في 11 ديسمبر.
هدف المنتدى إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، خاصة في مجالات التجارة والصناعات عالية التقنية والقطاعات الأخرى، كما ركز على زيادة التجارة الثنائية وتعزيز التبادلات الثقافية.
ومن الجدير بالذكر أن زيارة وزير الدفاع الهندي لموسكو، وصفقة روسنفت-ريلاينس، ومنتدى الحوار التجاري كلها حدثت قبل أيام فقط من إعلان ترامب تهديده بالتعريفات الجمركية على الهند.
التداعيات المستقبلية
من المتوقع أن تؤدي سياسة ترامب التجارية إلى مجموعة واسعة من التداعيات على المستويات الاقتصادية والجيوسياسية.
على المستوى الاقتصادي المباشر ستأثر الصادرات الهندية في السوق الأمريكي بشكل ملحوظ، و يتضرر قطاعي تكنولوجيا المعلومات والنسيج الهندي، مما قد يؤدي إلى خسائر تقدر بمليارات الدولارات، إضافة إلى ارتفاع أسعار المنتجات الأمريكية في السوق الهندية نتيجة للرسوم المتبادلة، و كذلك تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين، مما قد يؤثر على العلاقات الاقتصادية طويلة المدى.
و على مستوى العلاقات الدولية، ستعزز الهند توجهها نحو تنويع شراكاتها الاقتصادية، خاصة مع روسيا والصين، و تقوية علاقاتها مع دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط كأسواق بديلة.
أما على الصعيد الاستراتيجي، فستعمل الهند لتطوير صناعاتها المحلية وتقليل اعتمادها على الواردات الأمريكية ،و توسيع التعاون العسكري والتقني مع روسيا كبديل للتكنولوجيا الغربية، و العمل لتعزيز مكانة الهند كقوة اقتصادية مستقلة في النظام العالمي متعدد الأقطاب.
هذه التداعيات مجتمعة قد تؤدي إلى إعادة تشكيل جوهرية في النظام التجاري العالمي، حيث تبرز الهند كقوة اقتصادية مستقلة قادرة على موازنة علاقاتها مع مختلف القوى العالمية. وفي حين قد تكون هناك تحديات قصيرة المدى، فإن النتيجة النهائية قد تكون تعزيزاً للمرونة الاقتصادية الهندية وقدرتها على المناورة في الساحة الدولية.
إن التهديدات التجارية الأمريكية تجاه الهند قد تأتي بنتائج عكسية، حيث تدفع نيودلهي نحو تعميق علاقاتها مع موسكو وتنويع شراكاتها الاقتصادية. وفي ظل التوقعات بأن تصبح الهند ثالث أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، فإن هذه السياسة الأمريكية قد تضر بمصالح واشنطن على المدى الطويل وتقوض جهودها في بناء تحالفات استراتيجية في منطقة جنوب آسيا. من الواضح أن العلاقات الهندية الروسية لم تنجُ فقط من الضغوط الغربية لقطع العلاقات، بل تعززت وازدادت قوة، وهو ما قد يشكل تحدياً كبيراً للمصالح الأمريكية في المنطقة.