كيف يمكن للثقافة أن تكون أداة دفاعٍ عن البيئة؟

يتجاوز الفن بطبيعته الإبداعية الحواجز اللغوية والثقافية، مما يجعله أداة فعالة لنشر الوعي بالقضايا البيئية. إذ يجسد الفنانون الأزمات البيئية من خلال وسائل بصرية تجذب الانتباه وتثير التأمل

محمد سيف الدين

 

مع بلوغنا الربع الأول للقرن الـــ 21 تتزايد التحديات التي تواجه مستقبل البشرية، وقد وصلت إلى مستوى غير مسبوق حيث باتت تهدد التنوع البيئي والبيولوجي. الأمر الذي سيلقي بظلاله على شكل ونوعية الحياة الحالية للبشر، وصولاً إلى مستقبل وجودهم على الكوكب.

 

هكذا تبرز أهمية وسائل نشر الوعي للوقاية من هذه التحديات والمخاطر، كونها مسألة حاسمة في وقف التدهور البيئي قبل تفاقمه وبلوغه نقطة اللاعودة، علماً أن تقارير دولية تشير إلى أن بعض المخاطر البيئية وصلت إلى المستوى المذكور في العديد من الميادين.

 

أمام هذا المستقبل الخطير: كيف تبرز أهمية الثقافة والفن كأدوات مؤثرة في توعية المجتمعات ودفعها نحو التفاعل مع القضايا البيئية والعمل على حلها؟ وكيف يتخطى الفن دوره الترفيهي ليكون وسيلة قوية للتعبير عن الأزمات البيئية وتعزيز الاستجابة المجتمعية لها؟

 

الفن كوسيلة للتوعية البيئية

يتجاوز الفن بطبيعته الإبداعية الحواجز اللغوية والثقافية، مما يجعله أداة فعالة لنشر الوعي بالقضايا البيئية. إذ يجسد الفنانون الأزمات البيئية من خلال وسائل بصرية تجذب الانتباه وتثير التأمل. ومن الأمثلة على ذلك إبداع الفنانين في تقديم مشروعاتٍ فنية تمثّل آثار الاحتباس الحراري، كالتماثيل الجليدية التي تذوب تدريجاً لترسل رسالةً حول ذوبان الثلوج القطبية، وإظهار تهديدها العديد من المدن الكبرى بالغرق في المستقبل غير البعيد.

 

إلى جانب ذلك، دخلت الرسومات الجدارية مسألة الفعل في هذا السياق، فأضحت لوحات ضخمة تحكي مشكلات البيئة العالمية مثل إزالة الغابات والتلوث، ما يحول الأماكن العامة إلى فضاءات للنقاش البيئي.

 

أما على الصعيد الرقمي، فكان الإبداع حاضر أيضاً لرفد الرسالة بأبعاد أخرى تسهم في تعزيز فرصها في الإقناع، وزيادة الوعي عند شرائح أكثر اتساعاً من الناس.

 

الفن الرقمي والتكنولوجيا: نافذة للمستقبل

 

مع تطور التكنولوجيا، انخرط الفنانون في استخدام أدوات مثل الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) لإنشاء تجارب تحاكي تأثيرات التغير المناخي. إذ يمكن للواقع الافتراضي أن ينقل الجمهور إلى مناطق متضررة من الفيضانات أو الحرائق، وأن يتيح لهم فهماً أعمق لتلك الأزمات وتأثيرها على المجتمعات والنظم البيئية.

 

الفن التفاعلي: تعزيز المشاركة الجماعية

 

يشمل الفن التفاعلي الجمهور مباشرة، مما يزيد من تأثير الرسالة البيئية. حيث يمكن للفنانين إنشاء مشروعاتٍ زراعية تفاعلية تعتمد على الزراعة المستدامة أو تنظيم ورش عمل لتحويل النفايات إلى أعمال فنية.

 

الثقافة كوسيلة للتأثير البيئي

تشكل المهرجانات الثقافية والفنية منصات مهمة لرفع مستوى الوعي البيئي. مهرجانات الأفلام البيئية، على سبيل المثال، تعرض أفلاماً وثائقية تسلط الضوء على أزمات البيئة، مما يعزز وعي الجمهور ويحفزهم على التفكير في الحلول الممكنة.

 

أما الأدب، فيوفر منصة عاطفية لإيصال رسائل حول المخاطر البيئية من خلال قصص إنسانية تتفاعل مع الواقع البيئي. الأدب المناخي (Climate Fiction) أصبح نوعاً أدبياً متزايد الشعبية، يربط بين الخيال والواقع ويبرز التحديات المستقبلية التي تواجه البشرية.

 

أما على مستوى الموسيقى والمسرح، فإن الاعتماد في المسرحيات ذات الموضوعات البيئية والموسيقية يكون على أصوات الطبيعة التي تعد وسيلةً فعالة للتواصل مع الجمهور بشكل عاطفي. عروض مثل The Great Animal Orchestra تجمع بين الموسيقى والفيديوهات الحية لتسليط الضوء على تأثير التغير المناخي على التنوع البيولوجي. ويمكن للمسرح التفاعلي أن يضع الجمهور في مواقف تتطلب اتخاذ قرارات بشأن قضايا بيئية.

 

الفنانون كصنّاع تغيير بيئي

يمكن للفنانين لعب دور بارز كسفراء للقضايا البيئية، فيستخدمون شهرتهم ونفوذهم للدفاع عن هذه القضايا. ويمكن أن يلهم هؤلاء مجتمعات بأكملها للتحرك ضد التحديات البيئية. كما يسهم التعاون مع المؤسسات البيئية في تطوير مشروعاتٍ تهدف إلى زيادة المعرفة بالاستدامة والتغير المناخي. وقد شهدنا أمثلة عديدة على هذا التعاون بين فنانين من المشاهير ووزارات البيئة، أو بينهم وبين الجمعيات التي تعمل في الاتجاه نفسه.

 

وإلى جانب ذلك، يتعاظم دور الفنانين من خلال تأثيرهم بالأجيال الطالعة، كملهمين لأجيالٍ جديدة من القادة البيئيين، وذلك من خلال الورش التعليمية والمشروعات المدرسية، مما يساعد على بناء جيل واعٍ بالتحديات البيئية وملتزم بالعمل من أجل مستقبل مستدام.

 

هكذا يتحول الفن إلى قوةٍ دافعة نحو التغيير الاجتماعي الشامل، وفي قلبه قضايا البيئة والمناخ، فتتحول القضايا البيئية إلى قضايا إنسانية تجسد مضامينها بطريقة عاطفية وأكثر اتساعاً من الناحية الإنسانية، مما يجعلها قريبة من الجمهور. وبدلاً من تقديم بيانات علمية بحتة، يمكن للفن أن يخلق اتصالاً مباشراً مع المشاهد من خلال رواية القصص وتجسيد المعاناة البيئية.

 

وعلى الصعيد هذا أيضاً، يمكن للأعمال الفنية والثقافية أن تشكل منصات للتفاعل بين المجتمعات المختلفة وتعزيز التعاون الدولي. المعارض الفنية الدولية مثل ArtCOP21، التي نظمت بالتزامن مع مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ.

 

تحديات الفن البيئي وآفاقه المستقبلية

لا تزال أمام هذا الاتجاه عقباتٌ شديدة الأثر، مثل صعوبة تأمين التمويل المالي لمشروعاتهم الهادفة. إذ أن توفير الجهد في هذا المضمار يقتطع من جهودهم في مضمار أعمالهم، ويضيق عليهم مساحات الفئات المستهدفة، وهو جهد ثقيل بطبيعته، ويستلزم تمويلاً للنواة الأساسية العاملة في توسيع الوعي حوله بالدرجة الأولى.

 

كما تقف إلى جانب التمويل عقبات أخرى، منها صعوبة قياس الأثر الذي تحدثه هذه الأنشطة على تغيير السلوك الاجتماعي. بالإضافة إلى الفجوة بين الفنون والعلوم، ما يصعب عملية تقديم الرسائل العلمية من خلال الوسائل الفنية، وتقويم هذه الرسائل في ما بعد.

 

ويمكن مع ذلك تعزيز الشراكات بين الفنانين والمؤسسات البيئية والحكومات، وإدخال الفن البيئي في المناهج التعليمية لتعزيز الوعي من سن مبكرة، والعمل على زيادة دعم المنظمات الدولية لمشاريع الفن البيئي. إذ إن الفن والثقافة يشكلان قوة لا يمكن إنكارها في معركة البشرية ضد التحديات البيئية. من خلال تقديم رؤى عميقة وتفاعلية حول أزمات البيئة، يلهم الفن العمل الجماعي ويعزز الأمل في مستقبل مستدام.

المصدر: الميادين