يُعد “محمد تقي خان فراهاني” المعروف بأمير كبير أحد الشخصيات التي تألقت كالشمس الساطعة في فترة حكم القاجاريين، خصوصًا في زمن حكم “ناصر الدين شاه قاجار”، وأسهمت في تعزيز الثقافة والدين في المجتمع الإيراني، يصادف اليوم الخميس الموافق 9 يناير/كانون الثاني ذكرى استشهاد هذا المصلح الإيراني العظيم والهدف من كتابة هذه السطور هو التعريف بشخصيته والتحولات التي قام بها من أجل تعزيز الثقافة والدين في إيران.
دار الفنون مفتاح المعرفة الحديثة
اعتبر أمير كبير بعد رحلتين إلى روسيا وأخرى إلى الدولة العثمانية، بعد مشاهدته للأوضاع والظروف في تلك البلدان وعمق تفكيره في مبادئ التعليم والتربية لدى الأمم الأوروبية، أن الحاجة للتكيف مع العالم الجديد تتطلب إجراء سلسلة من الإصلاحات والإجراءات مستوحاة من المنظمات الأوروبية. من أجل تحقيق هذا الهدف، كان من الضروري إما إرسال عدد من الطلاب إلى أوروبا أو دعوة عدد من المعلمين الأوروبيين إلى إيران لتعليم الشباب الإيرانيين.
وفقاً للهدف الذي كان يسعى إليه، قرر دعوة عدد من المعلمين الأوروبيين إلى إيران، ولذلك أسس “دار الفنون”، التي كانت في الواقع تقليداً لدار الفنون العثمانية، استمر بناء المدرسة لمدة عام كامل، وهي مؤسسة تعليمية تعد بمثابة أول جامعة إيرانية بالمفهوم الحديث، وكانت تُدرّس العلوم الجديدة وتستقطب عدداً كبيراً من العلماء الغربيين، لاسيّما من النمسا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وأدت هذه المؤسسة دوراً فاعلاً في تثقيف شرائح من المجتمع الإيراني وعلى رأسهم عدد من الأمراء وأفراد الأسرة القاجارية.
وكان لهذه المدرسة تأثيرات إيجابية على المجتمع الإيراني، فمنذ السنوات الأولى لإفتتاحها، بدأ المعلمون في تأليف كتب جديدة تم نشرها بالتعاون مع المترجمين والطلاب، ونتيجة لذلك، انتشرت المعرفة الغربية معروفة بين شريحة أوسع من المجتمع، وهي بذلك شكلت نافذة نحو عالم المعرفة الجديدة.
مع مرور الزمن، نشأت طبقة جديدة في المجتمع من خريجي تلك المدرسة كانت تتكون بنسبة كبيرة من أبناء الديوان والجنود وذوي المناصب وبعض الأمراء. تبنت هذه الطبقة الفكر التنويري وكان للبعض من أفرادها تأثير في التحولات الفكرية لجيلين لاحقين.
ترجمة ونشر الكتب
بعدما شاهد التقدم الذي حققه الغربيون في مجالات الاقتصاد والصناعة، بذل قصارى جهده في ترجمة كتبهم لكي يتمكن الباحثون عن العلم من الوصول إليها بسهولة، وقد شهدت العملية ازدهارًا أكبر نتيجة عاملين جديدين: أحدهما هو جهاز المترجمين الحكوميين، والآخر هو تأسيس دار الفنون، وذلك لأنه في مدرسة دار الفنون، كان يتم استخدام معلمين أجانب، مما جعل ترجمة كتبهم ضرورية، ومن جهةٍ أخرى، كان وجود هيئة من المترجمين التي شكلها أمير كبير مساهمة واسعة في توسيع باب الترجمة بشكلٍ غير مسبوق.
فقد كان الأمير يُكلف مجموعة من الأشخاص بترجمة الصحف من دول فرنسا، إنجلترا، روسيا، النمسا، الدولة العثمانية، والهند حتى يتعرفوا على العلوم والفنون الجديدة ويتعلموها.
سعى أمیرکبیر في طبع ونشر الكتب والرسائل المفيدة علمياً وصحياً بما أمكن. ومن ضمنها: خريطة القارات الخمس، وخريطة للعالم، وكتابان عن تاريخ نابليون، ورسائل حول ضرورة التلقيح ضد الجدري، وغيرها…
انتشار الصحف
قام أمير كبير بإطلاق صحيفة ثانية باللغة الفارسية في العصر الحديث بعد صحيفة ” كاغذ أخبار”، فصدر العدد الأول من “وقائع اتفاقية” عام 1951 وكانت تغطي الأخبار الداخلية المتعلقة بالبلاط وقرارات العزل والتعيين، واهتمت بالأحداث المحلية في مدن ومحافظات إيران، وتطرقت في بعض صفحاتها إلى القضايا الخارجية، وكذلك تضمنت مقالات مفيدة ونافعة حول النظام، والدول، والمجالس التشريعية، والأوضاع الاجتماعية في الدول الآسيوية، وسياسات الدول الأوروبية، ومقالات علمية تتعلق بالهيئة، وعلم الأرض، والتاريخ، والجغرافيا، والاختراعات الصناعية، وإنشاء السكك الحديدية، ومصانع النسيج وصناعة الزجاج، واستثمار مناجم الذهب في أمريكا، والتي كانت تُترجم من محتويات الصحف الأجنبية، وكان يهدف من نشرها إطلاع الحكومة على أوضاع العالم، وتنوير الشعب، وتعريفهم بالمعرفة الجديدة وأحوال الدول الأخرى.
محاربة الفرق الضالة
كذلك أجرى إصلاحات واسعة في الشؤون الدينية، فقد كان رجلاً متدينًا ومؤمنًا، ومن أجل ذلك كان يتصدى للأمور التي يرى أنها تتعارض مع الدين، حارب العلماء الذين كانوا يستغلون موقعهم الديني، فكلما كان يرى أو يسمع أن عالماً دينياً باسم الدين والمذهب يعطل تنفيذ المبادئ الصحيحة التي اتخذها لإدارة البلاد ومصالح العامة، كان يتصدى له ويغلق طريق نفوذه غير المشروع، وألغى عادة التطبير المنتشرة في مراسم عزاء عاشوراء، وحل وزارة “دار الشرع” التي كانت تمارس نوعاً من الاضطهاد على غير المسلمين، وأعطى الأقليات الدينية مزيداً من الحقوق والإمتيازات. وعاش الزرادشتيون وكذلك الآشوريون والأرمن والأقليات المسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانت، والصابئة، وإلى حد ما اليهود أيضاً وفق هذه السياسة المنفتحة.
فقد اتسمت سياسته تجاههم بالتسامح الديني وحق حرية العبادة والمساواة في الحقوق الاجتماعية، وتعزيز مكانتهم الاجتماعية، وهو بسلوكه هذا أخرجهم من أحضان المستعمرين ومنع استغلال الاستعمار لهم بحجة عدم المساواة في الحقوق.
وهو سعى جاهداً لتقليص نفوذ الأجانب المسيطرين بقوة على الشؤون الداخلية الإيرانية، وعزل العديد من الولاة المتهمين بالفساد والولاء للأجانب، وبالتالي عمد إلى تنويع العلاقات مع الغرب؛ ليحدّ من نفوذ البريطانيين والروس الذين كانوا يتقاسمون الوضع المحلي الإيراني.
شهيد مكافحة الفساد
أثارت إصلاحات أمير كبير حسد الأمراء ورجالات الدولة الذين قلقوا من نفوذه الواسع في إيران الذي يهدد مصالحهم، فحاربوه منذ العمل على إفشال مشاريعه وخططه الإصلاحية واجتهدوا في الإيقاع به عند الشاه وتلفيق التهم. وكذلك سعى البريطانيون للتخلص من الوزير القوي الذي كان يشكل خطراً على نفوذهم في إيران، وبالفعل انتهت كل هذه المؤامرات بإصدار الشاه قراراً بقتله، ونُفّذ بعد بضعة أيام من قرار عزله.