حكمة المشاعر المتناقضة كأداة قوة في تحمل صعاب الحرب

خاص الوفاق: المشاعر المتناقضة ليست مجرد ظاهرة نفسيّة داخليّة، بل هي إحدى القواعد الأساسية التي تقوّي مناعة المجتمعات وتُعزّز من تماسكها. حين يعبر الأفراد عن مشاعرهم المختلفة فإنهم يكشفون عن جوانبهم الإنسانيّة الأصيلة، ما يسمح بفتح جسور من التفاهم والتعاطف بينهم.

2025-01-08

د. رُلى فرحات

 

المشاعر المتناقضة وتأثيرها على النفس

 

إنّ الحياة وسط الحرب تفرض على الأشخاص مشاعرًا مختلفة، فيجدون أنفسهم مُحاطين بمشاعر متناقضة تُختبر يوميًا وفي بعض الأحيان ضمن السّاعة الواحدة، وهذا ما يجعلهم في حالة توازن نفسي يُعزّز من مرونتهم ويُقوّي حصانتهم النّفسيّة. مشاعر متناقضة تجمع بين الخوف والإطمئنان، أو الخوف والشجاعة، والحزن والفرح، والجوع والشبع، والحب والكره، والألم والأمل، ممّا يُدخلهم في دوامة من التجارب العاطفيّة الإنفعاليّة المتسارعة. هذه المشاعر تتقلب بشكل حاد، مما يؤدي إلى تعزيز الوعي العاطفي وزيادة الحساسية النفسية، حيث يصبح الإنسان أكثر تأثرًا بكل ما يحيط به من مواقف وأحداث.

 

المشاعر المتناقضة ليست مجرد ظاهرة نفسيّة داخليّة، بل هي إحدى القواعد الأساسية التي تقوّي مناعة المجتمعات وتُعزّز من تماسكها. حين يعبر الأفراد عن مشاعرهم المختلفة فإنهم يكشفون عن جوانبهم الإنسانيّة الأصيلة، ما يسمح بفتح جسور من التفاهم والتعاطف بينهم.

 

تأتي قوة المشاعر المتناقضة من أنّها تُضيف بُعدًا عميقًا لتجربة الإنسان، إذ تفتح له أبوابًا غير مرئيّة لفهم نفسه وفهم الآخرين. قد تبدو هذه المشاعر وكأنها صعبة وعبء ثقيل، لكنّها تُساعد في بناء نوع من التوازن العاطفي العميق والإتّزان الإنفعالي المتميّز حيث تُعلّم الإنسان درسًا في المرونة الصلبة أثناء مواجهة الأحداث القاسية. فعندما تتناوب مشاعر مثل الرغبة في الصمود مع الرغبة في الإستسلام كما يحصل اليوم مع الكثيرين، يتعلم الشخص التعامل مع الضغوط بشكلٍ تدريجي خاصة وأنّه ينجح في الصبر على البلاءات المتعدّدة فيتعزّز إيمانه وينطلق أسرع باتجاه الصّمود عن الإستسلام.

 

وعليه، يتحوّل هذا التوازن النفسي الناشئ من تناقض في المشاعر إلى أداة علاجيّة غير مرئيّة، تساعد الأفراد على مواجهة القلق والخوف والتوتر، فتتوسّع مداركه النفسيّة وينمو جهازهم المناعي النّفسي.

 

كيف تتحول المشاعر المتناقضة إلى أداة قوة؟

 

الشعور بالحزن قد يجعل الشخص متعاطفًا مع الآخرين، متأثرًا بهم وبما يجري معهم، خاضعًا لبراثن الحزن وأوجاعها، بينما الأمل يدفعه للنهوض من مستنقع الأحزان فيقف كالمارد الذي يُشهر فكره للبحث عن حلول وللإتيان بمخارج توصله إلى بر الأمان، ليس هو فحسب بل كل من معه إذ يُصبح أنموذجًا يُحتذى به. هذا التوازن بين الحزن والأمل يعزز القدرة على الصمود، وهو المفتاح للبقاء بصحّة نفسيّة سليمة رغم كل الظروف الصّعبة التي تُحيط به.

 

هذه المشاعر متناقضة شكلًا وليس مضمونًا، لأنّ في شكلها قطبان متنافران لا يلتقيان، أمّا في جوهرها، فهما إنفعالان عاطفيان تطغى عليها المشاعر والمؤثرات ويتحكّم بهما النّصف العاطفي من الدّماغ والذي هو طريق للتطرّف الشعوري والسّلوكي. مواجهة تناقض المشاعر تُساعد الشخص على تقبل الأحداث غير المتوقعة، فيُصبح أكثر مرونة ويمتلك من الذكاء العاطفي ما يمنحه الإستعداد للتغيرات ولمعالجة أي موقف مستجد.

 

على سبيل المثال، الشعور بنقيضين «الخوف والشجاعة» يخلق عند الشخص دافعًا لحماية نفسه وأسرته من الخطر المُحدّق به على قاعدة «لا ترموا أنفسكم بالتهلكة» لكنه في الوقت ذاته يشجعه على مساندة الآخرين ومد يد العون بكل ما يستطيع وأكثر. فتكون الشجاعة هنا دفاعًا جماعيًا يُعزّز التضامن الجمعي وليس فقط الشخصي.

 

دور المشاعر المتناقضة في بناء مجتمع متماسك

 

يمكن أن تُقوّي هذه المشاعر الروابط بين الأفراد، حيث أنّه في ظل الأزمات أو الظروف الصّعبة، تبرز هذه المشاعر المتنوعة كحافز يجمع بين الأفراد لمواجهة الصعوبات المشتركة معًا، حيث تصبح التّحديات كالقاسم المشترك وجزء من تجربة جماعيّة تشدّ المجتمع نحو بعضه البعض، إذ أن مواجهة الصّعوبات معًا ومشاركة الألم والفرح تُعزّز من الروح الجماعيّة وتفتح آفاقًا كثيرة نحو إبتكار الحلول وتعويض النقص.

 

عندما يعترف الأفراد بمشاعرهم المتناقضة ويتعلمون التعايش معها، فإنهم يُصبحون أكثر تقبلًا للإختلافات، ما يجعل المجتمع أكثر إنسجامًا وقوة في مواجهة الأزمات.

 

وعندما يتعلم الأفراد التعايش مع تناقضاتهم، من الحزن الذي قد يخالطه الأمل أو الخوف الذي يتخلله الشجاعة، يصبحون أكثر قدرة على تقبل الإختلافات الثقافيّة والفكريّة، ويقدرون قيمة التنوع. هذا التقبل ينشئ مجتمعًا أكثر مرونة ويفتح المجال أمام حلول مبتكرة للتّحديات المشتركة، حيث أن إختلاف وجهات النظر وثراء المشاعر يجعل التّفكير الجماعي أكثر عمقًا وأوسع تأثيرًا وأشد تأثيرًا وتُصبح النّمذجة وسيلة للتعافي وللإستمراريّة.

 

إن اعتراف الأفراد بأن لديهم مشاعر متناقضة وقبولهم لذلك، يُساهم في بناء بيئة من التسامح، حيث يرى كل فرد الآخر كمرآة لمشاعره وتجاربه. هذه البيئة تتجاوز الخلافات وتُركز على القيم المشتركة، ما يجعل المجتمع ككل قادرًا على التّصدي للأزمات بقوة تآلفه ومرونته في تقبل تناقضات الحياة اليوميّة وتحدّي تقلباتها وظروفها الصّعبة وتغيّيراتها المُتسارعة، وهذا هو سر التماسك الفعلي الذي ينبع من العمق النفسي للأفراد وينعكس على الإستقرار الإجتماعي.

 

حكمة المشاعر المتناقضة كوسيلة للصمود.. رحلة التوازن بين القوة والهشاشة

 

إن إحتضان المشاعر المتناقضة كجزء من التجربة الإنسانيّة، ليس مجرد قدرة نفسيّة تُنمي مهارات التعامل مع الحياة، بل هو حكمة تزرع في قلوبنا أساس الصّمود. وأن القدرة على التوازن بين هذه المشاعر قد تكون أحد أسرار القوة والصمود. فأن نشعر بالخوف إلى جانب الشّجاعة، أو بالأمل في خضم القلق، يمنحنا وعيًا مختلفًا تجاه تجاربنا ويجعلنا أكثر مرونة أمام عواصف الحياة وتُعلمنا كيف نكون كشجر السنديان نميل مع العاصفة فنقوم أشد قوة وأكثر متانة. فالصمود الحقيقي لا يعني إنعدام المشاعر المتضاربة، بل ينبع من القدرة على التوازن بينها، وهذا هو ما يُكسب الإنسان قوة نادرة، قوة مميّزة، قوة قادرة على الإنحناء أمام العواصف بدون أن تنكسر.

 

عندما نتعلم إحتضان المشاعر المتناقضة كجزء من هويتنا وتجربتنا الإنسانيّة، يُصبح الصّمود أكثر من مجرد فعل دفاعي، فهو يتحول إلى رؤية نابعة من الإدراك بأنّ الحياة لا تقتصر على لون واحد. فالتّعايش مع مشاعر متضاربة كالحب والألم، والفرح والحزن، يُساعدنا على فهم الحياة في أبعادها الكاملة، مانحًا إيانا عمقًا عاطفيًا ونفسيًا أكبر. فالشخص الذي يقبل مشاعره المتضاربة يمتلك قلبًا أكثر اتساعًا وذهنًا أكثر حكمة، قادرًا على مواجهة المواقف العصيبة بثبات وهدوء، دون أن يتخلّى عن عمق مشاعره.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص