د. أكرم شمص
مقدمة
شهدت الساحة اللبنانية في الأشهر الأخيرة تطورات مفصلية أظهرت عمق التحديات التي تواجه المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، في ظل الضغوط الدولية والإقليمية التي تسعى لعزلها سياسياً وتقويض دورها الميداني. من خطاب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، إلى تصريحات الحاج وفيق صفا، وصولاً إلى انتخابات رئاسة الجمهورية واختيار العماد جوزاف عون رئيساً بعد تسوية حساسة، تجلت ملامح الصراع بين محاولات فرض الهيمنة الدولية وصمود قوى المقاومة.
المحور الأول: خطاب الشيخ نعيم قاسم واستراتيجية المقاومة
في خطاب الشيخ نعيم قاسم، تم التركيز على محاور أساسية تعكس فلسفة المقاومة واستراتيجيتها في مواجهة التحديات:
1- الشهادة كقيمة مركزية: استحضار شخصية الشهيد قاسم سليماني ودوره في ربط ساحات المقاومة يعكس التزام الحزب بنهج التضحية كمبدأ أساسي في مشروعه.
2- الردع وقوة المقاومة: أشار الشيخ قاسم إلى قدرة المقاومة على إحباط أهداف العدو الصهيوني، كما تجلى في معركة «أولي البأس»، حيث استطاعت المقاومة منع العدو من تحقيق مكاسب ميدانية رغم الحصار والضغوط.
3- التكامل الإقليمي: أكد الشيخ على أهمية تحالف المقاومة مع القوى الإقليمية المناهضة للهيمنة الغربية، مشيراً إلى صمود اليمن وفلسطين وسوريا.
4- القراءة الاستراتيجية: الشيخ نعيم قاسم قدم قراءة استراتيجية تُبرز الفارق بين غياب المقاومة في سوريا وتأثيره على احتلال الجولان واستهداف الجيش السوري، مقابل وجود المقاومة في لبنان الذي منع تكرار سيناريو عام 1982.
خطاب الشيخ نعيم قاسم كان رسالة واضحة بأن مشروع المقاومة ليس مجرد أداة عسكرية، بل رؤية سياسية واستراتيجية متكاملة ترتكز على الصمود والمواجهة. كلمة الشيخ نعيم قاسم تحمل طابعاً استراتيجياً، حيث ركزت على تعزيز الروح المعنوية للمقاومة، وتوضيح الإنجازات، وربطها بالرؤية الأوسع لمحور المقاومة. كما تضمنت إشارات واضحة لالتزام حزب الله بالدفاع عن القضايا الوطنية والإقليمية، مع الدعوة إلى الوحدة الداخلية في لبنان كخطوة أساسية نحو الاستقرار.
المحور الثاني: تصريح الحاج وفيق صفا ومعادلة «الفيتو»
أثار تصريح الحاج وفيق صفا حول «الفيتو» الذي يضعه حزب الله على ترشيح سمير جعجع لرئاسة الجمهورية جدلاً واسعاً. هذا التصريح يحمل أبعاداً استراتيجية عدة:
1- رفض مشاريع الفتنة: وصف جعجع بأنه «مشروع فتنة» يشير إلى موقف حزب الله تجاه دوره في الحرب الأهلية اللبنانية وسجله السياسي. ويربط صفا جعجع بالاستقطاب الداخلي، ويعتبره تهديداً للاستقرار الوطني..
2- التأكيد على القوة السياسية: وضع «الفيتو» على جعجع يعكس قدرة الحزب على التأثير في المشهد السياسي اللبناني ومنع فرض أي رئيس يتعارض مع مصالح المقاومة.
3- التوازن الداخلي: تصريح صفا جاء ليؤكد أن أي رئيس لا يمكن أن يصل إلى بعبدا دون موافقة الثنائي الشيعي، ما يرسخ دور الحزب كلاعب رئيسي في صياغة التوافقات.
4- الرد على المراهنين: تصريح الحاج وفيق يضع حداً لهذه المراهنات ويؤكد أن المقاومة لا تزال مستعدة لأي مواجهة مستقبلية.
تصريح وفيق صفا جاء ليعيد التأكيد على مكانة حزب الله كحارس للاستقرار اللبناني، رغم كل الهجمات الإعلامية والسياسية. والفيتو على جعجع ليس موقفاً شخصياً، بل يعكس استراتيجية لمنع دخول لبنان في أزمات جديدة. اما الردود المعارضة، على الرغم من شدتها، تكشف عن عمق التأثير الذي ما زال يتمتع به الحزب في السياسة اللبنانية.
رسائل تصريح صفا:
أ. لجمهور المقاومة: يهدف التصريح إلى طمأنة جمهور المقاومة بأن الحزب لا يزال قوياً ويمتلك زمام المبادرة في الساحة السياسية اللبنانية.
ب. للمعارضة: رسالة مفادها أن الحزب لن يسمح بتكرار تجارب سابقة أدت إلى تفاقم الأزمات الداخلية.
ج. للمجتمع الدولي: التأكيد على دور حزب الله كقوة سياسية لا يمكن تجاوزها في أي تسوية داخلية أو إقليمية.
المحور الثالث: الانتخابات الرئاسية والانتصار التكتيكي للمقاومة
جاء انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية في سياق سياسي محلي وإقليمي متشابك، وسط ضغوط خارجية كبيرة واتفاقات داخلية متقنة الصياغة. ويمثل هذا الحدث محطة هامة في تاريخ السياسة اللبنانية الحديثة، حيث يكشف عن مدى تعقيد التوازنات السياسية وتأثير القوى الدولية والإقليمية على القرار الداخلي. ورغم أن انتخابه عُدّ انتصاراً تكتيكياً لبعض الأطراف، فإن التحليل يكشف النقاط التالية:
1- التسوية المشروطة: وافق حزب الله وحركة أمل على انتخاب جوزاف عون بعد حصولهما على ضمانات تتعلق بدور المقاومة واستمراريتها.
2- رسالة الثبات: تصويت الثنائي الشيعي بأوراق بيضاء في الدورة الأولى كان رسالة بأن أي رئيس لا يمكن فرضه دون التفاهم معهما.
3- التحديات المقبلة: وصول عون للرئاسة لا يعني نهاية الصراع، بل يمثل مرحلة جديدة تتطلب مراقبة العلاقة بين الرئيس الجديد والمقاومة.
4- التوازنات الإقليمية: تظهر الاتفاق أن المقاومة لا تزال قادرة على فرض شروطها ضمن التسويات الكبرى، خاصة فيما يتعلق بدور المقاومة ومسألة سلاحها.
سيكون على الرئيس الجديد إدارة العلاقة بين متطلبات المجتمع الدولي واستمرار المقاومة كعنصر أساسي في المعادلة اللبنانية. وحيث ان التفاهمات مع الثنائي الشيعي تضع دور المقاومة ضمن أولويات
المرحلة المقبلة.
المحور الرابع: ردود الفعل على المقاومة ومحاولات العزل
تزامنت هذه التطورات مع تصاعد الدعوات لعزل المقاومة، سواء عبر الضغط الاقتصادي أو التهديد بإشعال فتنة داخلية. ومع ذلك، أظهرت الوقائع ما يلي:
- الصمود الشعبي: لا تزال المقاومة تحتفظ بشرعية داخلية قوية، خاصة في الجنوب، مما يمنحها القدرة على مواجهة أي تحركات تستهدفها.
2- التوازن العسكري والسياسي: فشل العدو الصهيوني في تحقيق أهدافه خلال الحرب الأخيرة يعكس عجزه عن تغيير المعادلات ميدانياً، رغم الدعم الدولي.
الخاتمة: المقاومة كعامل استقرار في مواجهة الهيمنة
تكشف التطورات الأخيرة أن المقاومة اللبنانية ليست مجرد طرف في المعادلة الداخلية، بل عنصر استراتيجي في التوازنات الإقليمية. خطاب الشيخ نعيم قاسم وتصريح الحاج وفيق صفا أكدا على أن حزب الله لن يسمح بفرض أجندات خارجية تتعارض مع مشروع المقاومة. وفي المقابل، أظهر انتخاب جوزاف عون أن أي تسوية سياسية في لبنان لا يمكن أن تتم دون موافقة الثنائي الشيعي.
بين الضغط الخارجي ومحاولات العزل، أثبتت المقاومة أنها قادرة على التكيف مع المتغيرات، مع الحفاظ على ثوابتها الاستراتيجية. هذا الصمود يشكل رسالة إلى الداخل والخارج بأن المقاومة ليست فقط حارساً للسيادة اللبنانية، بل أيضاً نموذجاً للمواجهة في وجه الهيمنة الإقليمية والدولية.
لقد فشلت محاولات عزل المقاومة اللبنانية من خلال استغلال حرب الـ66 يوماً أو الانتخابات الرئاسية، حيث أظهرت الأحداث أن حزب الله لا يزال لاعباً أساسياً في الداخل اللبناني. هذا الفشل يعكس صعوبة تجاوز التوازنات الداخلية في لبنان، واستحالة فرض تغييرات سياسية دون موافقة المقاومة. في ظل هذا المشهد، يُتوقع أن يستمر حزب الله في تعزيز موقعه السياسي والعسكري، رغم التحديات الدولية والإقليمية المستمرة.