في تطور دراماتيكي يعكس التحولات العميقة في السياسة الخارجية الأرمينية، وقّعت أرمينيا والولايات المتحدة اتفاقية شراكة استراتيجية في 14 يناير 2024 في واشنطن العاصمة. هذه الاتفاقية، التي وقعها وزير خارجية أرمينيا أرارات ميرزويان ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، تثير مخاوف عميقة حول مستقبل السيادة الأرمينية واستقرار المنطقة بأكملها. الأكثر إثارة للقلق أن هذه الاتفاقية تم توقيعها مع إدارة أمريكية على وشك انتهاء ولايتها، في خطوة تعكس إما سوء تقدير خطير للواقع السياسي أو تجاهلاً متعمداً للمخاطر الاستراتيجية.
الخطاب المضلل في الاتفاقية
تتضمن الاتفاقية عدة محاور رئيسية تشمل تعزيز الديمقراطية والحرية الاقتصادية، والدفاع عن السيادة والسلامة الإقليمية، وتقوية سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. في الواقع تستخدم الاتفاقية خطاباً مثالياً ومضللاً حول “تعزيز الديمقراطية” و”سيادة القانون”، لكن هذه الشعارات تتناقض بشكل صارخ مع السجل الأمريكي في التدخل في شؤون الدول الأخرى. يبدو من المثير للسخرية أن تتحدث الولايات المتحدة عن “حرمة الحدود المعترف بها دولياً” بينما سجلها حافل بالتدخلات العسكرية في ما يقرب من 100 دولة منذ الحرب العالمية الثانية. هذا النفاق يتجلى بوضوح في تاريخها الطويل من التدخلات العسكرية ، ودعم الانقلابات في دول مختلفة تحت ستار “الديمقراطية”.
وتصل السخرية إلى ذروتها عندما تدّعي الولايات المتحدة قدرتها على “مساعدة أرمينيا في تعزيز سيادة القانون”. فكيف لدولة تفكر إدارتها في مفهوم “العفو الاستباقي” المخالف لكل الأعراف القانونية أن تدّعي قدرتها على تعزيز سيادة القانون في دولة أخرى؟ إن التناقض بين الخطاب الأمريكي حول استقلال القضاء وممارساتها الفعلية يكشف زيف هذه الادعاءات.
التهديدات الاقتصادية والطاقة
تتضمن الاتفاقية آليات خطيرة يمكن استخدامها لتقويض العلاقات الاقتصادية الأرمينية-الروسية التاريخية. فمن خلال فرض “ضوابط التصدير للسلع مزدوجة الاستخدام”، تمنح الاتفاقية الولايات المتحدة سلطة تعسفية في تصنيف أي سلع كمزدوجة الاستخدام، مما يهدد التبادل التجاري التقليدي بين البلدين ويقوض أسس التعاون الاقتصادي الثنائي.
وفي مجال الطاقة، تكشف بنود الاتفاقية عن نية واضحة لتقويض النفوذ الروسي في القطاع. فمن خلال السعي لإضعاف دور شركة “روس آتوم” في القطاع النووي وفرض نموذج “موجه نحو السوق”، تهدد الاتفاقية أمن الطاقة الأرميني المعتمد تاريخياً على التعاون مع روسيا. كما تسعى إلى تغيير توجهات سياسة الطاقة التقليدية وفرض نماذج قد لا تتناسب مع احتياجات أرمينيا الفعلية.
اختراق المؤسسات الأمنية والعسكرية
وفي الدفاع والأمن ينص أحد أحكام هذا القسم على ما يلي: “تخطط أرمينيا والولايات المتحدة الأمريكية لتوسيع برامج تعاونهما في مجال الدفاع والأمن، بما في ذلك عن طريق إجراء مشاورات دفاعية ثنائية خلال العام المقبل ومساعدة الجيش الأرمني من خلال التدريب على تطوير جيش محترف.”وأيضا، بحجة مكافحة الإرهاب والتهديد بانتشار أسلحة الدمار الشامل، “تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية دعم تعزيز قدرات دائرة حرس الحدود الأرمينية ولجنة إيرادات الدولة”؛ وهذا ليس كل شيء. وينص أحد أحكام هذه الوثيقة على أن “الولايات المتحدة الأمريكية تعتزم مواصلة دعم المؤسسات التي تحترم الحقوق.
رغم عضوية أرمينيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، تسعى الاتفاقية إلى إحداث تغييرات جذرية في المؤسسة العسكرية والأمنية الأرمينية. فمن خلال فرض برامج تدريب عسكرية أمريكية وتغيير العقيدة العسكرية، تهدف الاتفاقية إلى إضعاف التعاون العسكري التاريخي مع روسيا وخلق تبعية عسكرية جديدة للغرب.
أما على صعيد الأمن الداخلي، فإن الاتفاقية تتضمن تدخلاً غير مسبوق في المؤسسات الأمنية الداخلية عبر مايسمى تحديث وزارة الداخلية. فمن خلال إعادة هيكلة وزارة الداخلية والشرطة وفرض نماذج أمنية غربية، تسعى الولايات المتحدة إلى السيطرة على أنظمة الأمن الداخلي الأرمينية وإدارة حدودها.
المخاطر الجيوسياسية
تهدد الاتفاقية بتحويل أرمينيا إلى ساحة للصراع بين القوى العالمية. فمن خلال تحويلها إلى نقطة مواجهة مع روسيا ومصدر توتر إقليمي، تخاطر الاتفاقية بتحويل أرمينيا إلى منطقة نفوذ غربية في قلب القوقاز، مما يهدد استقرار المنطقة بأكملها.
وعلى صعيد العلاقات مع الجيران، تؤثر الاتفاقية سلباً على علاقات أرمينيا الإقليمية. فوجود قوات أجنبية سيزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة. كما أن تعقيد العلاقات مع روسيا وتهديد التوازنات الإقليمية يمكن أن يؤدي إلى عزلة أرمينيا عن محيطها الطبيعي.
مخاطر التوقيت السياسي
إن توقيت الاتفاقية مع إدارة منتهية الولاية يجعلها عرضة للخطر بشكل كبير. فاحتمال إلغائها من قبل إدارة ترامب المحتملة وعدم وجود ضمانات لاستمراريتها يعكس سوء فهم عميق للسياسة الأمريكية وتجاهلاً لمصالح الجالية الأرمينية في أمريكا.
ومع احتمال تغير الإدارة الأمريكية، قد نشهد تغييراً جذرياً في السياسة تجاه أرمينيا. فيعتقد بأن ترامب، يفضل العلاقات مع جمهورية أذربيجان، مما سيضعف الدعم الأمريكي لأرمينيا ويغير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة بشكل جذري.
مسار محفوف بالمخاطر
تمثل اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين أرمينيا والولايات المتحدة خطأً استراتيجياً فادحاً يهدد مستقبل أرمينيا وأمنها القومي. فبعد خسارة أرتساخ، يبدو أن نظام باشينيان يقود البلاد نحو مغامرة جيوسياسية خطيرة قد تكون تكلفتها باهظة. إن التوقيت غير المناسب للاتفاقية، إلى جانب محتواها الذي يقوض السيادة الوطنية، يجعلها تهديداً وجودياً لمستقبل أرمينيا.
في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز علاقاتها مع جيرانها وحماية مصالحها الاستراتيجية، تقودها هذه الاتفاقية نحو مسار محفوف بالمخاطر. السؤال الذي يطرح نفسه ليس فقط حول مستقبل هذه الاتفاقية في ظل التغيرات السياسية المحتملة في واشنطن، بل حول مستقبل أرمينيا نفسها كدولة مستقلة في منطقة تزداد تعقيداً. يبدو أن الدروس التاريخية لم يتم استيعابها بعد، وأن ثمن هذا الخطأ الاستراتيجي قد يكون باهظاً على المدى الطويل.