ساحات التواصل الاجتماعي وانعكاساتها على أدب الحوار لدى فئة المراهقين

تتفاقم المشكلة وتسير في مديات أوسع حينما يكون الشخص المقّلَّد (بتشديد اللام وفتحها) ليس مجرد ممثل تافه، أو راقصة مبتذلة، ونحو ذلك، بل أكاديمي شهير أو شاعرٌ مُجيد أو أديب لامع أو فنّان مشهود له بالكفاءة وتحقيق معدلات عالية من الإنجاز، فحينئذ ستكون الطامّة أكبر...

2025-01-28

في ما مضى كان يُنظر إلى الشاب في عمر المراهقة، وما قبل هذا العمر بوصفه صفحة بيضاء خالية يستطيع المربّي أن يُملي عليه ما يشاء ليبدو بعد ذلك نموذجا تربويا يمكن نعته بأنّه منتوجٌ خاصّ لهذا المربي أو ذاك، وسواء أكان المربّي أمّا أو أبًا أو معلّمًا…

 

وكثيرة هي القصص والمواعظ التي وردت في كتب التراث العربي والإسلامي التي تصبّ في سياق الفكرة المتقدمة، ولكن الأمر في الوقت الحاضر لم يعد كما كان عليه من قبلُ لاسيما مع الطفرة التقنية الهائلة في عالم التكنلوجيا الحديثة، هذه الطفرة غير المسبوقة التي جعلت من الشاب المراهق يستمد قدوته، ومثله الأعلى من مواقع (السوشال ميديا) كالفيس بوك، والانستكرام، واليوتيوب، وغيرها.

 

والمشكلة الماثلة هنا تكمن بشكل صارخ حينما يكون الشخص القدوة أبعد ما يكون عن التحلي بالقيم الإنسانية المتسالم على صحتها، فتجده يزاول كلّ أنواع التهتك، والفجور، وتراه يخرج عن التقاليد بل حتى عن القوانين بصورة المتمرّد المتهوّر!

 

وتعظم المصيبة وتتخذ أبعادًا أكثر جسامة، وتأزمّا عندما يمارس هذا (القدوة) أفعاله الخاطئة هذه بألوان من مشاعر التيه، والزهو، والفخر أمام المئات وربما الملايين ممن ينخرطون في عمليات محاكاته، وتقليده، فيتحوّل الخطأ والمنكر في عقل المراهق تحديدا جرّاء هذا المشهد العبثي إلى صواب ومعروف لا جدال في حقيقته، وأحقيّته.

 

ونستطيع الآن -بسهولة- أن نضرب مثلًا بعشرات المشاهير الذين يتصدرون أعلى الهرم الاجتماعي في المواقع التي أتينا على ذكرها توًا، وهؤلاء يحظون -حكما- بنسب مشاهدة فلكية، فضلا عن الأعداد الغفيرة من المعجبين الذين تتحكم في نظام الحركة، والتصرف لديهم آليات (القطيع)، ومشاعر التعصب، والتقليد الأعمى.

 

وتتفاقم المشكلة وتسير في مديات أوسع حينما يكون الشخص المقّلَّد (بتشديد اللام وفتحها) ليس مجرد ممثل تافه، أو راقصة مبتذلة، ونحو ذلك، بل أكاديمي شهير أو شاعرٌ مُجيد أو أديب لامع أو فنّان مشهود له بالكفاءة وتحقيق معدلات عالية من الإنجاز، فحينئذ ستكون الطامّة أكبر، وأعظم من أن تتصدى لمعالجتها الحلول المألوفة في ميادين النصح، والوعظ، والإرشاد…

 

وتتفاوت درجة الخطورة التي قد تصيب فئة المراهقين نتيجة الهوس، والغلو في اتِّباع أمثال هؤلاء المشاهير المقتدى بهم، والمقتفى أثرهم…

 

ولعلّ الخروج عن اللياقة في ما يتعلق بآداب الحوار -وهو جوهر ما نحن بصدده- لعلها ستبدو أقل ضررا حين تُقارن بآفة المخدرات، أو الإقدام على الانتحار، وما إلى ذلك من المآلات الخطرة التي تنتج عن تأثّر قسم كبير من الشباب المراهقين بالسلوكيّات غير السوية التي يمارسها عن سبق تصميم وإصرار عدد لا يُستهان به من هؤلاء (المجانين) الذين جعلت منهم منصّات رقمية أيقونات باهرة!

 

من المفارقات العجيبة التي صادفتها شخصيا في أحد مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارا لدينا في العراق، أي موقع الفيس بوك ما يتعلق بشخص ذائع الصيت حائز على لقب أكاديمي رفيع في علم النفس والصحة النفسية، ومع ذلك كله تجده منغمسا غالبا بسلوك نزق لا يقيم لأدب الحوار وزنا، ولا قيمة؛ ولا نقاش في أن مثل هذه القدوة (الافتراضية) ستكون أسوأ من غيرها في مجال إلحاق الضرر بمقلديه لاسيما حديثي السن ممن يرون فيه قدوة جديرة بالحب والتقدير!

 

آخر ما نشره هذا الشخص المشهور -ولا أريد الكشف عن هويته لدواع أخلاقية- آخر ما نشره هو قوله:((هناك أصدقاء لا يعلّقون، ولا حتى إشارة (لايك) على منشورات زملائهم، ما يعني أنّها تعبّر سيكولوجيًا عن (الاستعلاء). سنتابعهم لأسبوع، بعدها…سنحظر من سيبقى على استعلائه في صفحة مخصصة لإشاعة ثقافة الحوار المهذّب)).

 

إن هذا الشخص لم يكفه ما أدلى به من تصريح غريب مستفّز، بل صوّرت له نرجسيته المتطورة أن هذا (الشيء) الذي يدعو إليه يدخل في وارد (الحوار المهذّب)!

 

ولك أن تتصور عزيزي القارئ مدى القناعة التي سوف يتركها منشوره هذا في نفوس أتباعه المنبهرين بشخصيته الفذة! خاصة شريحة المراهقين ممن لم يحظوا بقدر كاف من الثقافة والتعليم.

 

لكنّ من حسن الصدف وجود بعض العقلاء (المتابعين) لهذا الشخص ممن عابوا عليه موقفه هذا بصورة غاية في التحضر والبسالة؛ كتب أحدهم رادًا عليه بما نصّه: ((دكتورنا العزيز، الأستاذ والأكاديمي المعروف، من المهم أن ندرك أن السلوكيات الاجتماعية لا يمكن وضعها ضمن قوالب جامدة مثل وصف الشخص الذي لا يتفاعل بالمتعالي أو المتكبر. فقد يكون هذا الشخص متابعًا لما يُنشر ومستفيدًا من المحتويات القيمة التي يقدمها الآخرون، خاصة عندما تكون منشورات هادفة وثمينة… ومع ذلك، قد يفضل هذا الشخص عدم الانخراط في التفاعل الظاهري، ليس استعلاءً، بل خيارًا شخصيًا.

 

أما السلوك المتمثل في طلب التفاعل، والتلويح بالإقصاء أو الطرد لمن لا يتفاعل، والذي أصبح شائعًا على بعض صفحات المثقفين، وللأسف فهو قد يعكس رغبة دفينة أو حاجة غير واعية إلى تعزيز الشعور بالقبول الاجتماعي عن طريق السعي وراء الإعجابات والمشاركات… أن نلوّح بالإقصاء أو العزل لمن لا يتفاعل هو إجراء تعسفي وإقصائي لا يتماشى مع روح الإبداع، ولا مع أخلاقيات الكتابة…)).

 

ختاما أرجو أن يكون حجب اسم هوية هذا الشخص، والاكتفاء بعرض موقفه -خلوا من نيّة التشهير- وابتغاءً لتوظيفه (عيّنة) لتوضيح المراد من هذا المقال ليس إلا، أقول: أرجو صادقا مخلصا أن يجد هذا الشخص وأمثاله ما يستثيرهم لمراجعة سلوكياتهم التي من شأنها أن تُلحق الأذى بهم أولا، وتاليا بغيرهم، فضلا عن تقديمها صورة مشوّهة للـ (حوار المهذّب)…

 

د. لطيف القصاب

 

المصدر: شبكة النبأ

الاخبار ذات الصلة