الهبّة الشعبية جنوبًا تستنهض لبنان لمواجهة فرض “صورة الهزيمة”

هل نحن أمام مشهديّة تحرير جديدة مماثلة لتحرير الجنوب في أيار/ مايو 2000؟ ولماذا تحرك أهالي البلدات الجنوبية الحدودية في اتجاه تحرير بلداتهم بدلًا من انتظار المساعي الدبلوماسية؟  

2025-01-28

قبل أيام من انتهاء مهلة الشهرين التي حُدّدت لإتمام انسحاب جيش العدو من المناطق اللبنانية التي دخلها، بموجب اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى العمليات الحربية بين لبنان والكيان الصهيوني في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بدا واضحًا أن العدو يُسوّف في تنفيذ التزاماته بذريعة وجود دواعٍ أمنية وحاجته إلى “تفكيك البنى التحتية” للمقاومة في المنطقة الحدودية، كما مارس اِنتقائية مشهودة في تنفيذ بنود الاتفاق وفسّرها على نحو أخرج مفهوم وقف النار عن إطاره الطبيعي.

 

خلال الشهرين، كان لبنان مسرحًا لموجة من الاعتداءات الجوية والبرية تمثلت بغارات على مناطق بعيدة عن الحدود في اتجاه شمال الليطاني، خارج نطاق المنطقة التي يفترض أن تشملها عمليات الجيش اللبناني و”اليونيفيل”، وصولًا إلى البقاع والحدود اللبنانية- السورية. أيضًا؛ قام العدو بتوغلات عدة في مناطق لم يتمكّن من بلوغها، خلال أيام الحرب الـ 66، كما ارتكب عمليات تفجير وجرف واسعة النطاق للمنازل في البلدات الجنوبية المحتلة في مسعى واضح لقتل فرص عودة الأهالي إليها، حيث سعى جاهدًا لتحويلها إلى منطقة ميتة عازلة.

التمديد للاحتلال

يمكن، زمنيًا، تقسيم ما جرى منذ بداية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تاريخ بدء الحرب البرية على لبنان، إلى 3 مراحل:

 

الأولى: المرحلة العسكرية التي صدّت فيها المقاومة هجمات العدو العاتية المرفقة بآلاف الغارات الجوية على مناطق واسعة من لبنان.

 

الثانية: مرحلة وقف إطلاق النار التي يُفترض أنها مرحلة فاصلة قبل انسحاب قوات العدو، وتسلُّم الجيش اللبناني مدعومًا من “اليونيفيل” الأمن في منطقة جنوبي الليطاني. ما حصل أن العدو استغلّها لتنفيذ حملة اعتداءات وخروق غير مسبوقة، وهذه من أقسى المراحل على لبنان وأهالي الجنوب خاصة؛ لأن العدو صنع فيها مشهد تنكيل وانتقام، بعدما أخْلت المقاومة الساحة للجيش اللبناني والمعالجات الرسمية اِلتزامًا بموجبات وقف النار جنوب الليطاني. وكان الصمت الرسمي على الاعتداءات تارة، والمعالجات الدبلوماسية البطيئة تارة أخرى دافعًا للشعور بخيبة أمل الناس. وقد دفع ذلك ببعض المحللين والسياسيين إلى التنظير لـ “هزيمة المقاومة”، وراح آخرون يدعون إلى ضرورة التعامل مع الوضع بروح الاستسلام للقدَر الإسرائيلي!

 

الثالثة: اِنتهاء مهلة الشهرين التي انتظرها الأهالي بفارغ الصبر للعودة إلى ديارهم، ولكن سبقتها في الأيام الماضية تسريبات عن تفاهم “إسرائيل” مع الجانب الأميركي لتمديد المهلة وقتًا إضافيًا مترافقًا مع غموض في موعد الانسحاب النهائي وعدم وجود تعهد قطعي باستعادة المناطق المحتلة كلها، في ظل ما يقال عن إمكان بقاء العدو في مواقع على الأرض اللبنانية بذريعة أمنية. وقد ولّد هذا الوضع حالًا من الغليان عند الأهالي عبّرت عن نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي بالدعوة إلى تنظيم تجمعات حاشدة والتوجه إلى البلدات التي ما يزال العدو ينتشر فيها، لتفقد بيوتهم وأرزاقهم.

 

استشعر العدو نية الأهالي، فبادر إلى تحذيرهم من التحرك جنوبًا وهدّد عددًا منهم في اتصالات هاتفية على الأرقام الشخصية. لكنّ ذلك لم يغيّر من خططهم؛ بل ازداد تصميمهم على تحرير قراهم وبلداتهم وعدم قبول أي أعذار جديدة بعد كل ما جرى من مراوغة وانتهاكات باتت مفضوحة الأهداف. وللعلم، فإنّ المنطقة الحدودية المحتلة تحمّلت العبء الأكبر من القتال والدمار منذ تشرين الأول/ اكتوبر 2023، كونها خط المواجهة الأول، كما تحمّلت بعد وقف إطلاق النار القسط الأكبر من الانتهاكات الصهيونية الجسيمة. وعليه؛ يصبح فهم خصوصية معاناة هذه المنطقة وتضحياتها أمرًا لازمًا من أجل الوقوف على سيرورة الوضع الذي تطور إلى ما نحن عليه اليوم.

 

لقد كانت مهلة الشهرين مجالًا لاختبار ثبات وقف إطلاق النار وتحضير الجيش اللبناني ومعه قوات “اليونيفيل” الدولية لتنفيذ انتشار في المناطق التي سيخليها العدو. لكنّ الأخير اِتخذها فرصة لإكمال ما بدأه من تدمير وإعدام مجالات الحياة في المنطقة الحدودية، ما خلق مخاوف جدية من نواياه الفعلية. وجاء تمديد المهلة ليؤكد أن الاحتلال لا يحترم التزاماته؛ لأنه لا يرى أمامه “مواعيد مقدّسة”، ويفضّل إضفاء الغموض حول خططه لهذه المنطقة.

 

نتائج أولية

 

أدت الهبّة الشعبية، في 26 كانون الثاني/ يناير، إلى تفعيل الاتصالات على غير خط؛ بغية اِحتواء الموقف على الأرض، فأطلقت الإدارة الأميركية وعدًا جديدًا أبلغته للحكومة اللبنانية بإنجاز الانسحاب الإسرائيلي بحلول 18 شباط/ فبراير المقبل، ما يعني تمديد أمد الاحتلال ثلاثة أسابيع إضافية.

 

لكن الواقع على الأرض تغيّر نسبيًا، ويمكن تسجيل النتائج الأولية الآتية:

 

1- تحرير عدة بلدات بالقوة الشعبية فرض تسريعًا في جدول الانسحاب “الإسرائيلي”.

 

2- تحوّل موقف الجيش اللبناني من ممانع لدخول الأهالي إلى هذه البلدات، لدواع أمنية مؤقتة، إلى مُسهّل ومواكِب، وهذا أمر إيجابي.

 

3- أدى الواقع الجديد إلى تعزيز موقف الدولة اللبنانية في مطلب استعادة السيادة على كامل الأرض اللبنانية من دون قيد أو شرط.

 

4- أسهم حراك الأهالي في استنهاض روح المقاومة، بعدما أُريدَ للجميع أن يتقبلوا صورة الهزيمة التي أراد العدو أن يُلبسها لبنانَ بعد نهاية العمليات الحربية.

 

5- هناك نقطة مهمة جدًا تتعلق بمستقبل العودة إلى المنطقة الحدودية: إذ يؤكد الأهالي، بتضحياتهم الجديدة التي قدّموها، أنهم يريدون عودة كريمة وعزيزة وحقيقية إلى أرضهم، لا تشوبها شروط أو هيمنة أمنية “إسرائيلية” بأي شكل كان. بهذا المعنى، يرفضون تجدد أي توغلات “إسرائيلية” في الأراضي اللبنانية تحت ذرائع أمنية أو منع الأهالي من إعادة الإعمار قرب الحدود؛ لأن أي قيود من هذا النوع لا تتناسب مع التضحيات كلها التي قُدّمت في الحرب ولا مع كرامة الشعب اللبناني وسيادته على أرضه. يريد الأهالي تحريرًا فعليًا يسمح باستعادة الحياة الطبيعية في بلداتهم، وليس تحريرًا شكليًا يبقى فيه العدو المتحكّم والسيد في القرى والبلدات، يدخل ساعة يشاء ويخرج ساعة يشاء، ويطلب من الجيش و”اليونيفيل” القيام بدور الشرطي هنا وهناك وإلّا.

 

أثمر حراك الأهالي السلمي جدًا والفاعل والمؤثر في استنهاض الموقف الشعبي والرسمي على السواء، وإلى دفع جميع المعنيين لإيلاء استعادة المناطق الجنوبية المحتلة الأولوية التي تستحقها وسدّ الفجوة بين الموقفين الشعبي والرسمي، في ظل الانهماك بتشكيل حكومة جديدة واستحقاقات داخلية أخرى. ويوفّر هذا الحراك سلاحًا في يد المفاوض اللبناني في إطار اللجنة الخماسية المعنية بوقف إطلاق النار من أجل اِستعادة المناطق المحتلة حتى آخر شبر.

 

 

علي عبادي

 

المصدر: العهد

الاخبار ذات الصلة