سجّلوا.. هذا نصر

خاص الوفاق : عرفَت الكثيرُ من الدول مقاوماتٍ شعبية على امتداد التاريخ، بعضها منظّمةً وأخرى غير منظمة. أمّا جبل عامل فقد عرّف العالم على نوعٍ جديد من المقاومة الشعبية. عفوية ملأى بكل معاني التنسيق والتنظيم والوعي، كأنّ قلوبهم وأرواحهم تتخاطر العزم والقرار.. تتلقّى الأوامر من تعاليم الأنبياء.. تستحضر التاريخ العميق في كل زمانٍ وميدان، فتصبغه لوحةً بزيت الدم، فتستحيل كلُّ ساحةٍ ملحمة، وبانوراما مدهشةً لكلّ باصرةٍ وبصير.. وهكذا عبروا.

الشيخ علي حمادي العاملي

 

زحَف “العامليّون” حجيجًا إلى جنوب الليطاني.. ربما ترابُهم يحتاجُ إلى سقايةٍ في موسم نصرٍ جديد. دماءُ أبنائهم سقته في كلّ المواسم والملاحم.. وهم اليوم أيضًا حاضرون.

 

عرفَت الكثيرُ من الدول مقاوماتٍ شعبية على امتداد التاريخ، بعضها منظّمةً وأخرى غير منظمة. أمّا جبل عامل فقد عرّف العالم على نوعٍ جديد من المقاومة الشعبية. عفوية ملأى بكل معاني التنسيق والتنظيم والوعي، كأنّ قلوبهم وأرواحهم تتخاطر العزم والقرار.. تتلقّى الأوامر من تعاليم الأنبياء.. تستحضر التاريخ العميق في كل زمانٍ وميدان، فتصبغه لوحةً بزيت الدم، فتستحيل كلُّ ساحةٍ ملحمة، وبانوراما مدهشةً لكلّ باصرةٍ وبصير.. وهكذا عبروا..

 

لم تمنعهم أسلاكٌ شائكة أو قنابل غير منفجرة وحقول ألغام، ولا أسلحة متربّصة موجّهة نحو صدورهم.. ما زال صوت “موسى الصدر” في تموّجات العنفوان، وتحت قباب المآذن والمتاريس “قاتلوا الصهاينة بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعا”.

 

كلُّ البيوت مدمّرة والجسور مقطّعة، بعض أشجار الزيتون المُعمِّرة حُرقت أو قطعت، جثثٌ وجماجم صدقَت أرواحُ أصحابها أنهم باقون هنا، ولن تعبر دبابةٌ صهيونية إلا على أجسادنا.

لكنهم عادوا.. عادوا لأنّ دماء “أحبّائي” بنَتْ لهم جسرًا ممرّدًا بالمجد.. فكيف لا يعبرون؟! كيف لا يعبرون إلى أقصى مستويات التحدي والتهديد، في زمن أحطّ درجات التخاذل والخضوع، وإغراء التطبيع وتبريره في كلّ محيطنا الاقليمي.

 

جرحُ المقاومة لم يكن هيّنًا.. والامتحان الإلهي لم يكن سهلاً.. كان بحاجةٍ إلى شعبٍ يملأ ثغرةً في جبل أُحُد، أو يسند جبهةً نقصت ذخيرتها المادية في محور الرّوح، أو يضمّد جرحًا في ظهر المعسكَر، ويعيد وصلَ الشرايين بعضها ببعضٍ في عطاء الدم.. فكانوا حاضرين.

 

كل العالم شاهدهم يعبرون.. مشيًا على الأقدام في الجبال والوديان.. رجالاً ونساءً من كلّ فجٍّ ضجَّ بنيران الشّوق.. يعلمون ويشعرون مع كل خطوةٍ أنّ في كل بقعةٍ هناك قصّة وبطولة وغصّة.. هنا مقاومٌ بقي يقاتل وحيدًا وقد استشهد رفاقه. هنا جريحٌ ظلّ ينزف حتى نادته السماء. هنا شهيدٌ عرجَت روحُه على بُراق التسليم، وبقيت جثّتُه أيامًا وأسابيع لتمتزج بأصل التراب الطاهر فتزيده خصوبةً لمواسم الانتصار.

 

نعم تراب الوطن ليس له ثمن.. في بلادنا يتكلّم الكثيرون عن الوطنية والانتماء ويزايدون. وحدهم فقط أبناء جبل عامل تشاهد فيهم مصاديق تلك المفاهيم المجرّدة، حين يُلبِسونها ثوب الحقيقة المنسوج بخيوط العزّ.

 

نعم غالٍ هو تراب الأرض.. وبليغٌ هو لسان أهلها.. هذه المرّة هم يكتبون بيان غرفة العمليات.. لن يكرّس العدو معادلةً أو احتلالاً. عبَروا إلى قراهم.. شمّوا تراب أرضهم.. نعم غالٍ هو التراب.. غالٍ هو الجنوب.

 

الجرح كان عميقًا، كان بحاجةٍ إلى أمّةٍ تخرج من بلادة الحياة إلى ريادة الأباة وحقيقة إقامة الصلاة.. تخرج من فراغ الوقت القاتل إلى بذار السنابل.. تأمر بالتصدّي وتنهى عن الاستسلام.. تخرج للناس في عصر الجهالة والفتن، لتحفرَ أبجديَّتها الفريدة.. بمدادٍ مُستمَدٍّ من ينابيع الإرادة والصبر، ونجيع الشّهادة والنحر.. نعم : “سجّلوا… هذا نصر”.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص