د. أحمد فخر الدين
المشهد من غزة في الجولة الرابعة من المرحلة الأولى لتسليم محتجزي الكيان الصهيوني لدى حماس يختصر الكثير من الكلام الدائر حول مستقبل الوضع في القطاع الذي طاله التدمير بنسبة تتجاوز الثمانين بالمئة.
هذا المشهد غير مألوف عادة في أعقاب الحروب: تسليم أسرى بكامل إناقتهم وصحتهم إلى العدو.. وبخاصة مع عدو محتل لم يترك شكلاً من أشكال القتل والتدمير، والحصار المطبق إلا ولجأ إليه.
فقد لفت تنظيم حماس لعملية تسليم المحتجزين الصهاينة لديها أنظار المراقبين والعالم، لما تميز به من دقة وإدارة خلّاقة ولم تغب عن تنظيم الحفل، اللمسات الأخلاقية والإنسانية، التي لجأت إليها الجهة المنظمة، والتي تمثّلت بإحضار المحتجزين مع هدايا خاصة وهم بأفضل حلّة وبكامل لياقتهم وصحتهم البدنية والنفسية.. ولم يكن يصعب على المراقبين وكاميرات الإعلام أن تتبين السعادة على وجوههم وحركتهم الحرة دون قيود.. ليس بسبب تحررهم فحسب.. وإنما لما خبّروه وعانوه أثناء احتجازهم من معاملة مميزة وحرص على حياتهم وتقديم كل ما أمكن من أجل حياة طبيعية وآمنة إلى حد ما في ظل ظروف صعبة وتفتقر إلى الأمان وتحيط بها المخاطر من كل جانب نتيجة العدوان والقصف الصهيوني المستمر.
هذه اللمسات الإنسانية والأخلاقية في التعامل تظهر أكثر ما تظهر في الدفعات الأولى لإطلاق صراح النساء والفتيات المحتجزات، والتي قيل أن أحد الأسرى قام بتقبيل أحد رجال حماس، وفي مقابلة تلفزيونية لاحقة أجرتها إحداهن سردت تفاصيل عن مراحل الإحتجاز والأسر أكدت فيها أن كل ما كان تطلبه المحتجزات من حاجات خاصة لهن كانت تلبى وأن نساء من حماس بعد مرحلة التحقيق السريع كن يشرفن عليهن ويلبّين طلباتهن.
مسؤولو حماس أكدوا في هذا السياق أن إنجاز المقاومة لعملية التبادل هو بكل كبرياء وإبداع يمثّل ترسيخاً لقيمنا والتزام مبدئي بتعهداتنا، وإننا رغم الظروف القاسية حاولنا الحفاظ على صحة الأسرى لدينا، وهو إلتزام أخلاقي وديني، بينما ظروف أسرانا لدى العدو كانت سيئة للغاية، عدا عن الأساليب التي اعتمدها العدو والمماطلة في تحرير أسرانا والشروط التي فرضها على أهالي الأسرى بعدم إقامة الإحتفالات تحت طائلة الملاحقات وإعادة الأسر .
وقد عبر الأسرى العائدون الى غزة، وبينهم ٢٨ اسيرا كانوا محكومين بالمؤبد عن معاناتهم في السجون الاسرائيلية، والتعذيب الذي كانوا يتعرضون له وأوضح أحدهم وهو ما يزال في حافلة العودة أنهم اي ضباط وعناصر السجون الصهيونية كانوا يعاملونهم كالحيوانات بل أقل من ذلك.. وأن بعضهم تعرض للإغتصاب على يد جنود الاحتلال،
وقد أشار نادي الأسير الفلسطيني الى الممارسات الإرهابية للاحتلال بحق المحررين بالإضافة إلى تهديدات وصلت إلى حد القتل تضمنتها مناشير ألقت بها المسيرات الصهيونية وتمنع الإحتفالات بالتحرير.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الدرك الذي وصل إليه السقوط الأخلاقي في كيان العدو.. والذي تجاوز كل المعايير والقوانين الدولية والإنسانية.
مشهدان متناقضان يرسلهما خصمان على طرفي نقيض
كيان مغتصب للأرض يمتلك من الإمكانات والقوة والمقدرات ما تنوء به الارض على رحابتها تدعمه أميركا والغرب بكل متطلباته يمارس ابشع اشكال التعذيب والاجرام بحق المعتقلين لديه ويحرمهم في المعتقلات وحتى بعد إطلاق سراحهم من ابسط حقوقهم الإنسانية.. مهددا بإعادة الاعتقال في حال عدم الالتزام بتعليماته وفرض اجراءاته التعسفية.
وفي المشهد الآخر قطاع صغير من الأرض ابيدت معالمه ومحاصر على مدى أكثر من سنة وثلاثة أشهر ولايملك من إمكانات الحياة البسيطة الا القليل يقدم نموذجاً فريداً في التعامل مع الأسرى واحترام حقوق الإنسان عدا عن الدقة والتنظيم الممسوك بالأمن والاجواء السلسة والهادئة. والأهم من ذلك الإرتياح البادي على وجوه الأسرى أثناء تسليمهم الى المنظمة الدولية.. وكأنهم يقدمون الشكر لمحتجزيهم على مايشبه حسن الضيافة.
رسالة معبرة للقول ان من يروي الارض بالدماء هو من يمسك بها وهو من يحفظها.. وهو القادر على إنجاز انتصار اخلاقي سواء في موضوع الاسرى المحتجزين او في غيره مقابل السقوط الأخلاقي عند الاحتلال.