يا أُمّةً فقدت نَجمَها، يا قلوبًا تَكسَّرت بين أنينِ الوداعِ وحرقةِ الفراقِ…
يوم 23 شباط ليس كأيّ يوم.. هو اليوم الذي ستزفّ فيه قوافل العشق، وستحمل على الأكتاف أملاً يُزفُّ إلى علياء المجد، حيث ترتفع الأرواح الطاهرة لتسكن في سماء الخلود.. يومٌ تنحني فيه الأرضُ خجلًا أمام جسدٍ لم يعرف الإنحناء إلّا لله.. يومٌ تبكي فيه السماء على رجلٍ عاش لله ومضى لله، ليكون شهيد الأُمّة وسيِّدها، حسن نصر الله.
يا سيِّد الأحرار!
كيف نصدق أنّ اليد التي حملتنا، التي صنعت النصر، التي مسحت دموع المظلومين، ستوضع اليوم في التراب؟ كيف نصدق أنّ الصوت الذي زلزل عروش الظالمين، وسقى أرواحنا يقينًا وثباتًا، قد سكن إلى الأبد؟ بل كيف نتصوَّر أنّ ذلك الجسد الذي لم يعرف الراحة إلّا في ساحات المواجهة، سيكون اليوم في مرقدٍ هادئ؟
“قُومُوا فَإِنَّ النَّبأ عَظِيم”
ما أعظم فاجعتنا بك، وما أثقل المصاب على قلوبٍ أحبّتك، على عيونٍ كانت تنتظر إطلالتك، على أرواحٍ وجدت فيك بوصلة الطريق.. رَحَلتَ سيِّدًا كما عشتَ سيِّدًا، وحملناك في قلوبنا كما حملتنا في صدرك، يا مَنْ كنت لليتامى أبًا، وللأُمّة درعًا، وللمقاومة قلبًا ينبض بعشق الشهادة.
الحقيقة صعبة حين تعجز عن تصديقها؛ لكنها فرضٌ عليك أن تقبلها رغم الألم، رغم الإنكسار، رغم أنّ القلب يصرخ: “لا، ليس الآن، ليس أنت، سيِّدي!”؛ ولكنّك رَحَلتَ.. وتركْتنا نحمل ثقلك في صدورنا، نحمل الوعد في أعناقنا، نحمل وَجَعنا ونحيا به.
منذ لحظة التلميح الأُولى، ونحن نموت ألف مرّة…
متنا يوم لاحت في الأُفق إشارات الرحيل.. متنا عندما بدأت الأخبار تتسرَّب كخناجر تخترق صدورنا.. متنا عندما لمحوا دون تصريح، وعندما صمتوا حيث كنا ننتظر إجابة.. متنا حين ترسَّخت الحقيقة في العيون الدامعة.. متنا عند أوّل صورة للكفن، عند أوّل همسةٍ بأنّ الرحيل صار يقينًا.. متنا حين تَحدَّد موعدُ اللقاء الأخير، وحين خطبوا ليؤكدوا أنّ الفقد صار واقعًا، واليوم نموت مرّة أخرى عند الإعلان الرسمي للتشييع، وسنموت من جديد حين نرى الأكتاف تحمل مَنْ كان يحملها؛ لكن بعد ذلك.. لن نموت بعد اليوم، لن ننكسر، لن يُهزم العَهدُ، ولن تسقط الراية.
“إِنَّا عَلَى العَهْدِ”
ليس شعارًا نُردِّدهُ، بل هو دمٌ يجري في عروقنا، هو وعدٌ قطعناه أن نبقى كما علَّمتَنا، أن نظلّ أُمناء على الدرب، أن تكون شهادتك حياةً لنا، أن يكون رحيلك إنطلاقةً جديدة، نحو نصرٍ جديد، نحو زمنٍ تظلّ رايتك خفّاقة فيه.
يا ضلع الزهراء الثاني!
أيُّها السيِّد الذي ما هانت له عزيمة، وما انحنى له رأس، نقسم أنّ دمك لن يضيع هدراً، وأنّ صوتك لن يخفت، بل سيكون صدىً في ساحات الوغى، ووهجًا في عيون المقاومين، ونهجًا لا يحيد عنه الأوفياء.
أمّا بعد…
فكأنّ الدنيا لم تكن، وكأنّ الآخرة لم تزل.. في رحاب الخلود تمضي، وفي ذاكرة الأُمّة تبقى، وستظل الأرواح تُردِّد: سلامٌ عليك يوم وُلِدتَ مقاوماً، ويوم استُشهِدتَ قائداً، ويوم تُبعَثُ حيّاً…