تشهد الساحة السياسية الدولية تطوراً جديداً في ملف الأزمة القبرصية، حيث عادت التوترات بين تركيا والمجتمع الدولي إلى الواجهة من جديد على خلفية تمديد مهمة قوات حفظ السلام الأممية في الجزيرة المقسمة. هذا الملف الذي يعد من أعقد الملفات في منطقة شرق المتوسط، يكشف عن عمق الخلافات بين أنقرة والقوى الدولية حول مستقبل الجزيرة ووضعها السياسي. وتأتي المواقف التركية الأخيرة لتؤكد تمسك أنقرة برؤيتها الخاصة لحل الأزمة القبرصية، متحدية بذلك الإجماع الدولي وقرارات الأمم المتحدة، في موقف يعكس تعقيدات المشهد السياسي في المنطقة وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، حيث أصدرت وزارة الخارجية التركية مرة أخرى بياناً بشأن قبرص، واتخذت موقفاً رسمياً ضد قرار الأمم المتحدة، القصة بدأت عندما قرر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بناءً على اقتراح من بريطانيا وأيرلندا وبإجماع الأصوات، تمديد مهمة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في قبرص (UNFICYP) لمدة عام آخر.
وبذلك، تم تمديد المهمة التي بدأت عام 1964 لعام إضافي. تتكون القوة من 800 جندي كوماندوز و100 شرطي. وقد انقسمت جزيرة قبرص منذ عام 1974 إلى قسمين: تركي في الشمال ويوناني في الجنوب. قبرص الرئيسية الآن عضو في الاتحاد الأوروبي، لكن مواطني القسم التركي لم يستفيدوا من هذه الميزة، وطائرات مطار القسم التركي لديها خطوط طيران مع تركيا فقط.
وكما كان متوقعاً، احتجت تركيا فوراً على هذا القرار. وأصدرت وزارة الخارجية التركية بياناً رسمياً جاء فيه: “الحل العادل والدائم والمستدام لمسألة قبرص يجب أن يستند فقط إلى الحقائق الميدانية. والحقيقة هي أن الأتراك في جزيرة قبرص لديهم هيكلهم السياسي والإداري وحكومتهم المستقلة، ونطلب من مجلس الأمن قبول هذه الحقيقة والاعتراف بالحقوق الأصيلة للشعب القبرصي التركي، أي المساواة في السيادة والوضع الدولي المتساوي. وبالتالي، فإن تمديد مهمة قوة السلام التابعة للأمم المتحدة في الجزيرة لا يكون مشروعاً إلا إذا تم الحصول على موافقة الطرف التركي. ولكن هذه المرة أيضاً، لم يتم الحصول على ذلك خلافاً لإجراءات الأمم المتحدة.”
وأشارت وزارة الخارجية التركية في بيانها إلى أنها ستواصل دعم استقلال دولة قبرص التركية، وأن مهمة القوات العسكرية التابعة للأمم المتحدة لن تنجح إلا بتعاون وحسن نية الأتراك.
نزاع بلا نهاية
يبدو أن النزاع حول قبرص في السياسة الخارجية التركية لا نهاية له، ومسؤولو أنقرة مستعدون للنزاع ليس فقط مع اليونان وقبرص الرومية، بل أيضاً مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا والأمم المتحدة، ويتحدثون ليل نهار عن استقلال أتراك شمال قبرص.
هذه هي السياسة نفسها التي أدت منذ 60 عاماً إلى نشر عشرات الآلاف من القوات العسكرية والأمنية التركية في قبرص. ومع ذلك، لم تعترف أي دولة رسمياً بوحدة وهيكل سياسي يسمى “جمهورية شمال قبرص التركية”.
حاولت حكومة أردوغان خلال السنوات الثلاث الماضية إقناع مسؤولي بنغلاديش وباكستان و جمهورية أذربيجان وكازاخستان وقطر بإصدار بيان مشترك، كأصدقاء مقربين لتركيا، للاعتراف بالشرعية السياسية لحكومة قبرص التركية. لكن أياً من هذه الدول لم تكن مستعدة لاتخاذ مثل هذا الموقف حتى بشكل فردي.
ذلك لأنه وفقاً للنهج الرسمي والقانوني للأمم المتحدة، هناك دولة واحدة فقط تسمى قبرص، والمطالبة باستقلال قبرص التركية ليس لها سند قانوني.
أكد هاكان فيدان وزير الخارجية التركي، الذي زار جزيرة قبرص في الأيام الأولى من العام الميلادي الجديد، مرة أخرى دعمه للقرارات التركية السابقة بشأن أتراك قبرص، وأعلن خلال لقائه مع أرسين تاتار، الذي يطلق على نفسه رئيس جمهورية قبرص التركية: “لا يمكن تقديم حل جديد في الجزيرة بوضع قبل 50 عاماً. نعتقد أنه لا يوجد بديل عن حل الدولتين. من الضروري أن يعترف النظام الدولي باستقلال هذا البلد في أقرب وقت ممكن. في قبرص، أدار مجتمعان مختلفان نفسيهما بشكل منفصل في جزءين منفصلين من هذه الأرض. يجب أن تحصل هذه الحقيقة الآن على هيكلها القانوني والرسمي وأن تعمل دولتان في قبرص.”
كما أكد فيدان أن الأمن والاستقرار في بحر إيجه والبحر المتوسط لن يتحققا إلا إذا كان لأتراك جزيرة قبرص دولة مستقلة. إن ربط هذه المسألة ببحر إيجه في تصريحات فيدان يظهر أن قبرص لا تزال نقطة الخلاف الرئيسية بين تركيا واليونان.
تحديات كبرى
النزاع القديم في جزيرة قبرص هو جزء فقط من التحديات والمشاكل الكبيرة التي جعلت تركيا في خلاف جدي ليس فقط مع قبرص، بل مع اليونان أيضاً. لكن التحدي الثاني الكبير لتركيا في الجزيرة هو أنه بسبب دعم أنقرة المستمر لاستقلال الأتراك، توقفت فعلياً مفاوضات استكمال عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبحت هذه القضية نقطة الخلاف الرئيسية بين تركيا والاتحاد.
التحدي الثالث لتركيا في جزيرة قبرص هو أنه في السنوات القليلة الماضية، تم شراء عدة سفن حفر خاصة بأمر من أردوغان للعمل في اكتشاف موارد الغاز والنفط قبالة سواحل قبرص. لكن بعد احتجاجات متكررة من قبرص الأوروبية، اضطرت تركيا إلى وقف هذا النشاط.
المشكلة الكبيرة الرابعة لتركيا في الجزيرة هي أن الكيان الصهيوني اشترى في السنوات القليلة الماضية آلاف قطع الأراضي والعقارات والمتاجر في جنوب وشمال قبرص، ومن غير الواضح ما هي خطته الماكرة لهذه المنطقة.
التحدي الخامس لتركيا يتعلق بأهداف أمريكا الجديدة في الجزيرة. في السنوات القليلة الماضية، أنهت الولايات المتحدة، بتنسيق وإذن من الكونغرس، الحظر المفروض على الأسلحة على الجيش القبرصي الرسمي، وأقرت في عدة مناسبات بيع الأسلحة وإجراء دورات تدريبية قتالية متقدمة للجيش القبرصي.
في ذلك الوقت، اعتبرت وزارة الخارجية التركية قرار الولايات المتحدة بالسماح ببيع الأسلحة والتدريب العسكري لقبرص الجنوبية خطأً فادحاً.
وأعلنت الوزارة أن هذا الإجراء سيؤدي إلى زيادة الأنشطة العسكرية في الجزيرة، وأن الدعم العسكري لقبرص الجنوبية يضر بالسلام، وتتوقع أنقرة من واشنطن إلغاء هذا القرار في أقرب وقت ممكن.
كما أعلنت تركيا أنها ستواصل، بصفتها الدولة الأم والدولة الضامنة، دعم القدرات الدفاعية والردعية لجمهورية شمال قبرص التركية.
خلال الأسابيع الماضية، دخلت وزارة الخارجية التركية في مفاوضات مع الدبلوماسيين الأمريكيين مرتين وطلبت منهم إبلاغ طلب تركيا بإلغاء قرار جو بايدن السابق إلى دونالد ترامب.
التحدي السادس لحكومة أردوغان في جزيرة قبرص يتعلق بالسياسيين الأتراك. مجموعة كبيرة من السياسيين الأتراك القبارصة، بمن فيهم مصطفى أكنجي الرئيس السابق، يعارضون نهج تركيا ويعتقدون أن إصرار أنقرة على ضرورة استقلال الأتراك قد دمر حياتهم.
كما قال إن تاتار وصل إلى السلطة كرئيس جديد من خلال الخداع والتزوير والمخالفات التي كانت جهاز المخابرات التركي (MIT) المنفذ الرئيسي لها. تم اتخاذ هذا الإجراء بهدف وجود رئيس مطيع لأردوغان في السلطة في قبرص التركية.
أخيراً، التحدي السابع وربما الأهم للحكومة التركية في قبرص هو الأزمة المالية. يتم دفع الجزء الأكبر من النفقات الجارية والإدارية والتنموية للقسم التركي من الجزيرة من جيب تركيا، وفي ظل معاناة هذا البلد من أزمة مالية وديون خارجية ثقيلة، يصبح تغطية نفقات الجزيرة أكثر صعوبة يوماً بعد يوم.