عبير شمص
شكَّل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في 11 شباط /فبراير 1979، حدثاً تاريخياً تخطى بآثاره حدود الجغرافيا الإيرانية. واليوم، وفي الذكرى السادسة والأربعون للثورة، نقرأ نتائج هذه الثورة في ظل التحولات التي أحدثتها وأثرت على صعيد المنطقة والعالم. هذه التحولات تتعلق بالبُعد العالمي للثورة وآثارها التي تخطت جغرافيا إيران كدولة، وقدمت ثورة فريدة لإيران الدولة وللعالم أجمع، وشكَّلت نموذجاً يُقتدى به، للدولة القادرة على تعزيز مصالح أمنها القومي، دون التدخل أو حتى معارضة مصالح الشعوب الأخرى، هكذا قدَّم الإمام الخميني(قدس) مشروعه الإنساني الخالد ضمن إطاره العالمي المُستكمل لمسيرة الأنبياء والرسل، للتعرف على عالمية النموذج وفرادة التجربة حاورت صحيفة الوفاق الكاتب والباحث اللبناني الدكتور عبدالله عيسى، وفيما يلي نص الحوار:
تحول استراتيجي في القيم والدور الوظيفي
بدايةً، يشرح الدكتور عيسى مفردة “انقلاب إسلامي” أي الثورة الإسلامية بدلالاتها الاجتماعيّة والسياسيّة، تشير إلى تلك الحركة الشعبيّة التي نجحت بإحداث تغيير جذريّ ومفاجئ بقيادة دينيّة سياسيّة استثنائيّة، لقد صهر الإمام الخميني(قدس) أغلب اتجاهاتها وتصدّرها وجسّد تطلعاتها.
واستطاعت تلك الثورة الإنتقال من وضعٍ إلى وضع في كثير من القيم السائدة على مستوى هوية الحكم والمجتمع وممارساتهما، وفي القيادة والبنى السياسيّة_الاجتماعيّة، والدستور وطبيعة النظام وهندسته وآليات حكمه. ويكفي العودة إلى ما كانت عليه إيران من استبداد وتحلّل أخلاقيّ وقيميّ في هوية النظام الملكيّ وممارساته الظالمة وتعسّفه وإجرامه، فضلاً عن موقعه الوظيفي في خدمة المآرب الاستكباريّة لا سيّما البريطانيّة والأميركيّة وتعاونه الأمنيّ والسياسيّ الوثيق مع الصهيونيّة حتى ندرك الاختلاف النوعي والنعمة العظيمة في الانتقال من تلك الحالة إلى رحاب العزّة والاستقلال من أي تبعية وما استلزمها من بناء الاقتدار والانفتاح على الاتجاهات الفكرية والثقافية على أسس ومرتكزات أصيلة تبحث على الدوام في مواكبة متطلبات العصر”.
ويضيف :”رغم أهوال العنف التي لا تزال آثارها موجودة كسجن ايفين أنموذجًا تحكي تلك المظالم للسافاك وجلّادي الشاه المقبور محمد رضا بهلوي؛ فإن الإمام الخميني(قدس) بقيادته الرحيمة والحكيمة وشجاعته النادرة أصرّ على مبدأ السلمية في مواجهة الطاغية، والتمسّك بالإسلام منهجًا لتتضح تأثيراتها تاليًا في مختلف الأبعاد الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة ومواكبة التغيّرات الصناعيّة والعلميّة والتكنولوجيّة… ولا يخفى أن الثورة الإسلاميّة في إيران، أفضت إلى تغيير في البناء الاجتماعيّ، واستمرت آثارها لفترة طويلة نوعًا ما بعدما استندت إلى فلسفة ومباني وأصول عقائديّة وشرعيّة وقيميّة واضحة المعالم وتسير في خط مبدئي معيّن. وهدفت الى تحقيق مكاسب ماديّة ومثاليّة وحضاريّة لأبناء المجتمع الإيرانيّ كافة، ومن يشاركها من الشعوب التطلّعات والمنطلقات الدعم والنصرة والإلهام”.
ثورة غيرت وجه المنطقة
في سياق الإجابة عن كيفية تغيير الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (قدس) للمنطقة يرى الدكتور عيسى أنه قد يكون مفيدًا استحضار ما قاله “هنري كيسنجر” بأن “إيران (أكثر المشاعر الدولتيّة تماسكًا وأعلى درجات فن الحكم القائم على تراث المصلحة القوميّة_الوطنيّة إتقانًا)، تلك الدولة المقبولة في المنظومة الوستفاليّة، عندما انقلبت إلى داعية إسلام راديكالي بعد ثورة آية الله الخميني(قدس)، انقلب نظام الشرق الأوسط الإقليمي رأسًا على عقب، لم يفعل ذلك بإسم برامج اجتماعيّة لنظام حكم ديمقراطي بل بإسم نوع من الانقضاض على مجمل النظام وعلى ترتيبات الحداثة المؤسسيّة بالفعل. رأت عقيدته الدولة أنها سلاح مناسب لنضال ديني أوسع، ونظام إيران الديني تعبير عن حركة استقلال ما بعد استعمارية مظلومة، وطبيعة النزاع مع الغرب صراع على طبيعة النظام العالمي”.
بالتأكيد تنطوي كلمات كيسنجر على وظائفيّة تستبطن استراتيجيّات تبدأ من وعيه لإيران إلى خباثته في تفكيك نظامها الإسلاميّ، لكن بعيدًا عن أغراضه؛ يمكن القول أن أهمية الثورة تكمن في ديمومتها على ضوء الأفق الذي رسمته ويقودها إليه سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي بتصميم وعزم ورؤية ثاقبة، وهو البعد الحضاري والسيرورة نحو حجز موقع مستقبلي للمستضعفين في النظام العالميّ أو يحرّره من قبضة الهيمنة والاستكبار ما أمكن”.
فرادة مستمرة رغم كل المكائد الخبيثة
يؤكد الدكتور عيسى أنه لعل من أهم استراتيجيات الثورة الإسلاميّة هو شعار السيادة والإستقلال(لا شرقية ولا غربية)، الذي رفعه الإمام الخميني(قدس)، والسعي الحثيث للحفاظ على هذه الاستراتيجية. وهناك استراتيجية أساسيّة، أن الجمهوريّة الإسلاميّة تتعاون مع كل العالم على أساس الندّيّة والإحترام المتبادل، باستثناء الكيان الصهيوني فاقد الشرعيّة، فلا يمكن الإعتراف به. ومن استراتيجياتها نصرة المستضعفين وهذا مذكور في مقدّمة الدستور، كواجب أخلاقيّ وإنسانيّ ودينيّ ووطنيّ. ويحكم سياساتها، نصرة القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني، وما تزال تدفع ثمن هذا الموقف، وهذه الاستراتيجية معلنة في سياستها الخارجيّة. هذا وتدرك كافة فصائل وحركات المقاومة عميقًا أهمية إيران بل فرادتها في الدعم والرعاية والمساندة؛ رغم المخاطر التي قد تستدرجها إليها تلك الاستراتيجيّات.
نعم، لا تكف المحاولات لإضعاف الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة وإخضاعها وإسقاطها؛ ومؤخّرًا ما صدر عن “ترامب” من سياسة العصا والجزرة وهو الذي خرج من الاتفاق واتخذ قرار اغتيال الشهيد القائد الحاج قاسم سليمانيّ، قد أجاب عليه آية الله العظمى السيد علي الخامنئي بكل ثبات وجسارة مما يؤكّد أن الثوابت ثوابت وليست مجرّد شعارات، وأن الوقوف بوجه أميركا ومشاريعها أصل يحكم مساراتها الدبلوماسيّة أو الدفاعية، وفي الخلاصة لن تنجح هذه المحاولات في حرف بوصلتها الثوريّة المستقيمة بدرجات عالية.
ثورة الدفاع عن المستضعفين في العالم
يعتبر الدكتور عيسى أن الإمام الخميني(قدس) يدرك السنن التاريخيّة جيّداً ويعلم بوضوح خارطة وموازين القوى وطبيعة الدول الاستكباريّة ومواصفات حاكميها، ولأنه يعي تركيبة الإنسان ونزوعه نحو الشكر والكفر بالنعم الإلهية، ويرى أن المحورية في فطرة الإنسان وبالتالي في إنسانية الإنسان، وهي مسألة جوهرية على امتداد كل العالم. من هنا لا بد من مجابهة الطاغوت ولا بد من تشخيصه دون تمييع ووضع سبل المقاومة ونصرة المظلوم، كجزء بنيوي من فهمه الديني ووعيه لتكليفه في الحياة، التي يرى فيها مسرحًا لتكامل الفرد والجماعات والمجتمعات، وعلى قاعدة قرآنية محوريتها في الحب والخشية هو الله دون سواه، فيخشاه ولا يخشى معه أحدًا سواه. وهذا النهج ممتد مع سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي في نصرة مظلومي فلسطين ولبنان والعراق وسوريا واليمن وفنزويلا وآخرين”.
الثورة مستمرة رغم الاستكبار والطغيان الأمريكي
يشير الدكتور عيسى بأنه هناك استكبار وطغيان وهجوم عدوانيّ أميركي يأخذ أشكالًا عدّة، يتمحور حول أميركًا أولًا ضمن مساعي التوسّع والتي يلاقيها بولادة شرق أوسط جديد يرتكز على فرض صفقة القرن وترتيبات الاتفاقات الإبراهيميّة المزعومة، وما يستدعيه من إيجاد دولة خالصة للصهاينة في فلسطين المحتلة ويجري توسيعها، وما يعنيه من تهجير الشعب الفلسطيني مجددًّا إلى مصر والأردن ولبنان، وشبكة التمويل الدولية جاهزة لذلك بابتزاز كل من اليابان والسعودية وكوريا الجنوبية وكندا والاتحاد الأوروبيّ وبشكلٍ رئيس ألمانيا؛ وفي هذا الإطار يتم الترويج للإنتصار الصهيوني في غزّة ولبنان ولهزيمة حركة المقاومة الإسلاميّة حماس وحزب الله، مع تلويح بل تصريح بالعدوان على الجمهورية الإسلامية كجزء من مشروع القضاء على المقاومة وإخضاعها، هذه المساعي الخطيرة جديّة، وقد سبقت شروع ترامب بممارسة صلاحياته تمهيدات جيوسياسيّة وتغييرات ديموغرافيّة، سواء في الحرب والإبادة العدوانيّة بيد صهيونية على غزّة ولبنان، وإعادة إنتاج السلطة في لبنان على الهوى الأميركيّ، وإحداث الانقلاب المدبّر في سوريا مع لوازمه وتداعياته الاستراتيجيّة، إلا أنّ التنبيه إلى تلك المخاطر لا يعني بأنها قدر؛ ومن هنا أهميّة كلام السيد القائد “إذا هددنا الأمريكيون فسوف نهدّدهم، وإذا نفّذوا تهديدهم ضدنا فسوف ننفذ تهديدنا”.
من هنا، وبعد الملاحم البطوليّة في غزّة، وبعد معركة “أولي البأس” التي كشفت عن صمود إعجازيّ كبير للمقاومين في لبنان وعن تقدّم في يقظة وشجاعة المجتمع اللبنانيّ المقاوم؛ فإن العدوان كلّما ازداد فتح الأفق لعصر المقاومة من جديد بولادة أشد تصميمًا وضراوة، ولا ننسى أن حماقة الأعداء سترتد عليهم مزيدًا من التمزق في مجتمعاتهم لا سيّما في الأماكن التي سيطر فيها الطغاة على حساب سكان الأرض الأصليين في الولايات المتحدة الأميركيّة والكيان الغاصب والمؤقّت”.
يختم الدكتور عيسى حديثه بقوله أن الرسم البيانيّ للمسار العام للثورة ضد الظلم ومقاومة الاحتلال والهيمنة لا زال تصاعديًّا، ما يعني أن استلهام مبادئ الثورة الإسلاميّة في إيران لدى الشعوب وما أنتج من بدايات تبلور لجبهة المقاومة واختبارها في جولتي صراع هي الأكبر والأعمق والأوسع والأشد تأثيرًا ما بعد “طوفان الأقصى” وإبان معركة “أولي البأس” وما رافقهما من إسناد يمنيّ وعراقيّ وعمليات الوعد الصادق الإيرانيّة، هذا الاستلهام والتناغم والتكامل يهيّء الأرضيّة لمستويات جديدة دون المساس بثوابت الثورة الإسلامية ورسالتها ودون تراجع منهج المقاومة وبسالتها بل إيجاد همّة مضاعفة تستمد طاقتها من أرصدة الانتصارات ووافر التضحيات العظيمة وما تفرزه التحدّيات الجديدة من استجابات أهل الكرامة والعزّة في مواجهة أعداء الإنسانيّة ومرتكبي الإبادة، وما النصر إلا من عند الله”.