يشهد النظام العالمي تحولاً عميقاً في ديناميكيات القوى بين القطبين الأمريكي والصيني، خاصة في منطقة أمريكا اللاتينية التي تمثل ساحة استراتيجية للتنافس بين القوتين العظميين. فمع تزايد النفوذ الصيني في المنطقة عبر الاستثمارات الضخمة والمشاريع الاستراتيجية، تصاعدت التوترات الجيوسياسية بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من التصريحات المتناقضة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول أهمية المنطقة، إلا أن التحركات الأمريكية على الأرض تكشف عن استراتيجية متعددة الأبعاد تهدف إلى احتواء التمدد الصيني وإعادة تشكيل العلاقات مع دول المنطقة وفق رؤية جديدة للمصالح الأمريكية.
التحول في السياسة الخارجية الأمريكية
في تصريح أثار صدى في الأوساط السياسية والاقتصادية في أمريكا اللاتينية، قال دونالد ترامب: “نحن لا نحتاجهم – هم يحتاجوننا”. ومع ذلك، تبدو أفعاله مختلفة عن أقواله. فمن الضغط الاقتصادي إلى الاتفاقيات الاستراتيجية، حافظت إدارة ترامب على تركيزها على دول أمريكا اللاتينية، خاصة في محاولتها لاحتواء نفوذ الصين في المنطقة.
إن التناقض الظاهر بين أقوال ترامب وأفعاله ليس صدفة. فهناك تغيير جذري يحدث في السياسة الخارجية الأمريكية، يتميز بانسحاب استراتيجي من هيمنتها العالمية ونهج حمائي جديد يعيد تعريف علاقاتها الدولية. ومن أوضح الأمثلة على هذه الاستراتيجية الجديدة هو بنما.
قضية بنما والصراع الجيوسياسي
في فبراير 2025، أعلنت الحكومة البنمية أنها لن تجدد مذكرة التفاهم مع الصين لمبادرة الحزام والطريق. لم يكن هذا التراجع عرضياً، حيث كثفت الولايات المتحدة ضغطها على المنطقة، متدخلة في عمليات المناقصات لمنع الشركات الصينية من الحصول على عقود استراتيجية.
أصبحت بنما، التي تحتضن أحد أهم الممرات البحرية في العالم وهو قناة بنما، نقطة محورية في النزاع الجيوسياسي بين واشنطن وبكين. إن تأمين طرق التجارة والسيطرة عليها في الشمال والجنوب – غرينلاند وبنما – أصبح أولوية. وهذا لا يحمل معنى رمزياً فحسب، بل يعزز أيضاً الحصار المفروض على كوبا ويحد من التقدم الصيني في المنطقة.
لم يتخذ قرار بنما بعدم تجديد المذكرة مع الصين في فراغ. ووفقاً للمحللين، لعب الضغط الأمريكي دوراً حاسماً. فقد عملت واشنطن خلف الكواليس لضمان ألا يقوض الوجود الصيني مصالحها في قناة بنما. وتعكس هذه الإجراءات استراتيجية واشنطن الأوسع لإبعاد دول أميركا اللاتينية عن الصين، وهي منطقة اعتُبرت تاريخياً “الفناء الخلفي” لأمريكا.
علاقات أمريكا اللاتينية مع الصين
عززت الصين وجودها في أمريكا اللاتينية من خلال استثمارات بمليارات الدولارات في البنية التحتية والطاقة والنقل. ففي بيرو، يمثل ميناء تشانكاي استثماراً بقيمة 3.5 مليار دولار. من المتوقع أن يصبح هذا الميناء أحد أهم الموانئ في المنطقة، وهو مثال واضح على كيفية توسيع بكين نفوذها في أمريكا اللاتينية.
وفي كولومبيا، يقوم تحالف كولومبي-صيني بتحديث ستة مطارات باستثمار 200 مليون دولار. بالإضافة إلى ذلك، تظهر مشاريع مثل محطة كاوتشاري للطاقة الشمسية في الأرجنتين، الممولة من بنك التنمية الصيني، وتحديث الخط 1 لمترو مدينة مكسيكو، باستثمار قدره 1.863 مليار دولار، مدى النفوذ الصيني في المنطقة.
ضغوط أميركية
لم تمر هذه المبادرات دون أن تلحظها واشنطن. فقد عبرت الولايات المتحدة عن استيائها من المشاركة الصينية في المشاريع الاستراتيجية. في المكسيك، على سبيل المثال، ضغطت للحد من المشاركة الصينية في تحديث المترو وقطار المايا. وفي كولومبيا، حدث الشيء نفسه بالنسبة لامتيازات المطارات.
هذه الإجراءات ليست جديدة. فخلال إدارة ترامب الأولى، زار وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو تشيلي للحد من استثمارات البنية التحتية من قبل الشركات الصينية. كما كانت هذه المخاوف حاضرة في إدارة جو بايدن، التي أطلقت استراتيجية الأمن القومي (NSS) في عام 2022 وحشدت موارد كبيرة للحفاظ على النفوذ الأمريكي في المنطقة.
نظام عالمي جديد
نحن نشهد ليس مجرد تراجع الهيمنة الأمريكية، بل بناء نظام عالمي جديد ما بعد أمريكي. لم تعد الولايات المتحدة تسعى – أو ربما لم تعد قادرة – على الحصول على تابعين غير مشروطين؛ بدلاً من ذلك، تفضل علاقات براغماتية تتطور وفقاً لمصالحها الحالية.
تجلى هذا التراجع الاستراتيجي في فرض رسوم جمركية على شركاء تاريخيين، مثل المكسيك وكندا وكولومبيا، وإعادة تعريف معنى أن تكون “حليفاً” لواشنطن. وفي النهاية، توصلت هذه الدول الثلاث إلى اتفاقيات لتجنب الرسوم الجمركية التي أرادت واشنطن فرضها.
تختار الولايات المتحدة انسحاباً منضبطاً من التزاماتها المهيمنة من أجل تركيز مواردها على الأولويات الوطنية الأساسية بدلاً من إجبارها على انسحاب أكثر فوضوية في مرحلة لاحقة. يمكن تفسير هذه العملية بطريقتين: إما كتراجع حتمي أو كاستراتيجية لتجنب انهيار أكبر في المستقبل.
مستقبل أمريكا اللاتينية
تجد أمريكا اللاتينية نفسها في موقف دقيق أمام إعادة التشكيل الجيوسياسي هذه. يجب على المنطقة التخلي عن دورها التابع في النظام الدولي والتحرك نحو سيادة اقتصادية وسياسية أكبر. كما يجب عليها تعزيز العلاقات مع دول البريكس والاستفادة من تنويع الشركاء التجاريين.
التكامل الإقليمي الحقيقي من خلال آليات مثل مجتمع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (CELAC) ضروري أيضاً. فقط من خلال استقلالية أكبر في صنع القرار ستتمكن أمريكا اللاتينية من توطيد نفسها كفاعل جيوسياسي له صوته الخاص في العالم متعدد الأقطاب الذي يتشكل.
تحتاج المنطقة أيضاً إلى تعزيز السياسات الصناعية والتكنولوجية التي تقلل من الاعتماد على تصدير المواد الخام وتشجع إضافة القيمة للمنتجات الإقليمية. من خلال التصنيع والابتكار التكنولوجي، تحتاج أمريكا اللاتينية إلى توليد فرص عمل وتحقيق تنمية اقتصادية أكبر. يجب أن تكون المنطقة مستعدة للتنقل في هذا العالم متعدد الأقطاب بذكاء وتصميم، خاصة عند مواجهة إدارة ترامب.