قبل أن تشرق الشمس، كانت الطرقات المتفرّعة من طريق المطار والمؤدية إلى مدينة كميل شمعون قد امتلأت بالمشيّعين. عائلات خرجت بأكملها للمشاركة، حتى لم يبقَ في البيوت إلا من أقعده المرض أو الكبر عن المسير. الكل في جنازة السيّد، يحملون ابتسامته التي نادراً ما تُرى له صورة من دونها في معظم الصور التي رفعوها في كل المسارات التي خُصّصت لهم. على طريق المطار، على مقربة من مدخل مخيم برج البراجنة، انقسم الجمع، الآتون لتوّهم من الجنوب والخارجون من البيوت المجاورة: النساء انعطفن في الطريق الفرعية التي تؤدي في منتصفها إلى مرقد السيد نصرالله الذي كان صباحاً محجّة التوّاقين إلى البكاء، وفي آخرها تقود من يريد إلى جادة السفارة الكويتية ومنها إلى المدينة الرياضية، فيما أكمل الرجال طريقهم نحو جسر المطار سابقاً ومنه إلى المدينة الرياضية.
رغم الضياع الذي كان يلفّ الوجوه، إلا أن ذلك لم ينعكس على حدث التشييع الذي تميّز ببراعة التنظيم، حيث كان «الشباب» يقفون عند كل منعطف ويرشدون الناس إلى الأماكن المسموح الدخول إليها. وانعكس التنظيم أيضاً على نقاط توزيع خيم مسعفي الهيئة الصحية الإسلامية وبيوت الضيافة الكثيرة التي جمعتها ألقاب الشهيد السيد، فهنا مضيف «عزيز الأمة»، وعلى مقربة منه «مضيف الحسن ابن الحسين» و«عزيز الروح» و«سيد شهداء الأمة». وكانت للفلسطينيين حصّة من تلك المضائف، فعند مدخل مخيّم برج البراجنة، أقامت حركة الجهاد الإسلامي مضيفاً، وُزّعت فيه عبوات مياه لُفّت بصورة «سيد شهداء الأمة» والعلم الفلسطيني.
على طول الطريق الفاصل بين مطار بيروت وجسر المطار سابقاً، احتار الناس في كيفية التعبير عن وفائهم للشهيد السيد، فتحوّل الطريق بمداه إلى موائد مفتوحة أُطعم المشيّعون منها على «حبّه». وهو ما بدأوه منذ ما قبل التشييع بثلاثة أيام، وبلغ ذروته ليلة تشييع السيد، إذ لم «ينم» طريق المطار، وبقي ناسه مستيقظين حتى ساعات الصباح الأولى. كان ليلاً استثنائياً، ليس فقط لأن الطريق ممر حتمي للآتين من الجنوب والبقاع للمشاركة بالتشييع، بل لأنّ الناس كانوا يتحضّرون لليوم التالي.
بالنسبة إلى الكثيرين ممن مروا من هناك أو كانوا هناك، كان الليل موحشاً ومحزناً ومثقلاً بالفقد، يشبه «ليلة العاشر من المحرّم»، يقول محمد مسيلم صاحب أحد بيوت الضيافة هناك. وكثر مثله كانوا يقولون عن «الليل الذي يسبق المصرع»، حيث اعتاد ناس هذا الطريق بالذات القيام بالطقوس نفسها في ليلة مصرع الحسين. لا يجد الناس حرجاً من تشبيه السيّد بالحسين، فبالنسبة إليهم هو «حسين العصر»، يقول مسيلم، «ابن حركة أمل»، فـ«الإمام الحسين لم يبايع ومثله فعل السيّد نصرالله». كثيرون شرعوا أبواب بيوت الضيافة حتى الصباح، وفي الخلفيات يصدح صوت السيّد نصرالله. لكن، حتى تلك اللحظة لم يكن أحد يتوقّع ماذا في اليوم التالي، فالكل هناك كان يهجس بسؤال واحد: ماذا سيكون الموقف حين تطلّ عمامته فوق الجسد المُسجّى في الصندوق الخشبي؟
بين جادتي سليماني والسفارة الكويتية
لم يكن الحبّ له محصوراً في الطعام والشراب وفي نوبات البكاء والحزن، وإنما أيضاً في سرعة امتلاء الشوارع بالمشيّعين، إذ لم تكن الساعة قد اقتربت من العاشرة صباحاً، أي قبل 3 ساعات من موعد بدء المراسم، حتى كان أوتوستراد الأسد والطرقات المحاذية له قد فاضت بالمشيّعين الذين افترشوا جنبات الطريق بانتظار بدء المراسم. ما يلفت في ذلك الطوفان هو خجل الناس من رفع صور شهدائهم في حضرة السيّد، فكانت صور شهدائهم أصغر من صورة صاحب الذكرى، بحجم «زرّ» على صدر أبيه أو أمه أو أخته أو قريب له. أما صور الشهداء الكبيرة فكانت قليلة جداً مقارنة بالصور العملاقة للسيّد. ربّما لأن «بعد السيّد صار كل شيء هيّناً»، تقول سيّدة تحمل بين يديها صورة ابني شقيقتها مصطفى ومجتبى ناصر اللذين استشهدا في الحرب الأخيرة.
تقول إن «الناس قد لا يصدّقون أننا صدّقنا موت أبنائنا ولم نصدّق موت السيد حسن نصرالله». فحتى اللحظة التي رأت فيها الجسد مُسجى، لا يزال «عقلي غير مستوعب»، وهي حالة كثيرين ممن شاركوا في تشييع السيّد أمس وأحبّوه إلى حدّ عدم تصديق غيابه. زينب فرحات واحدٌ ممن كانوا ينتظرون وصول الجثمان كي يصدّقوا. تقول فرحات ذلك بغصّة. تبكي السيدة السبعينية التي أتت مع أولادها وأحفادها كلما ذكر اسم نصرالله مسبوقاً بكلمة شهيد. عندما يصدح الصوت بـ«أين نصرالله أين» تبكي. وفي كل مرّة يعاد فيها التسجيل، تعاود البكاء، وكأنها تسمعها للمرة الأولى. وهكذا دواليك. تبكي ثم تجفّف دموعها ثم تعاود البكاء، ومثلها الكثيرون، سواء من الناس العاديين أو من الفاقدين، فـ«النبأ اليوم عظيم»، تقول والدة أحد الشهداء التي حملت صورة ابنها على صدرها وصورة السيدين في يدها وعلم حزب الله. أتت من الجنوب لـ«تودّع السيد»، وعادت إلى الجنوب لتشارك اليوم في تشييع السيد هاشم صفي الدين.
لم يصدّق المشيّعون استشهاد السيّد إلا مع دخول العربة التي تحمل النعشين. انفلت الحزن الذي كان مؤجّلاً، وفاض دفعة واحدة، فانسكب سيلاً من الدموع من عيون من اجتمعوا لتشييع «أبيهم». سال الدمع طويلاً حتى احمرّت العيون، وكأنها اللحظة التي صدّقوا فيها أنّه قد مات. ليس فقداً عادياً، ولا يخصّ شخصاً دون آخر. كان فقداً جماعياً، فقداً بحجم العالم، عاشه مئات الآلاف على الطرقات أمس. وفي اللحظة التي خرج فيها صوت السيّد للمرّة الأخيرة وهو يخاطبهم «يا أشرف الناس وأكرم الناس»، ضجّ الناس بالصراخ، قبل أن يستكينوا ويرفعوا قبضاتهم بـ«لبيك يا نصرالله». هذا هو السيد. هذا هو حسن نصرالله الذي كان يرفع سبابته، فترتفع أمامه مئات آلاف القبضات بـ«لبيك يا نصرالله»، والذي هتف لصوته أمس مئات آلاف المشيّعين أيضاً «لبيّك» و«هيهات منا الذلّة»، قبل أن يعيدوها مجدّداً مع اختراق الطائرات الحربية الإسرائيلية لمرتين متتاليتين سماء المدينة.
لم تكن تلك القبضات المرتفعة نحو السماء مشهداً عادياً أمس، فقد كانت سيلاً امتدّ من مرقد السيد نصرالله حتى المدينة الرياضية، حيث كانت الحركة شبه مستحيلة بين جادتي قاسم سليماني والسفارة الكويتية، إذ حطّ الناس رحالهم هناك بعدما فاضت مدينة كميل شمعون بالمشيّعين، فاختار من بقوا خارجها البقاء حيث هم، على مقربة من الشاشتين العملاقتين اللتين وُضعتا لمتابعة مراسم التشييع. ولكن، حتى هذان المكانان لم يكونا قادرين على استيعاب المدّ البشري الذي ظلّ مستمراً حتى ما بعد بدء المراسم، فتوزّع المشيّعون في ما بعد ما بين أوتوستراد الأسد بخطّيه، والطرق المحاذية له من الجانبين.
ولأنه لم يكن محسوباً هذا الفائض هناك، خصوصاً أنه بحسب مسارات التشييع التي وُزّعت كان يفترض أن تكون المسارب فارغة حيث سيقطع الجثمانان مع التشديد على الوقوف جانباً، لم توضع شاشات كافية هناك، فوجد المشيّعون أنفسهم يتابعون مراسم التشييع إما على الهواتف أو بالاستماع إلى مكبّرات الصوت التي كانت تبثّ الكلمات مباشرة. طوفان من البشر ازداد مع إعلان انتهاء مراسم التشييع في المدينة الرياضية وخروج الجثمانين منها. طوفان تخطى حدود «الزوم إن» و«الزوم آوت»، وفي أقل من ساعة واحدة، كان أوتوستراد الأسد بالاتجاهين قد أُقفل بالمشيّعين. وعلى «ضفافه» من الناحيتين، وقف الآلاف وعيونهم معلّقة إلى «نفق المطار» بانتظار وصول الجثمانين إليهم. لكنها، كانت ساعات انتظار طويلة، تخلّلها بكاء مرير على الصوت الخارج للمرة الأخيرة من مكبّرات الصوت.
ما يقرب من ثلاث ساعات انتظر الناس هناك كي يحظوا برؤيته للمرة الأخيرة، إذ بسبب الضغط الهائل على الطرقات، استغرق مسير السيدين أكثر مما كان مخطّطاً له. انتظروه طويلاً برغم قساوة البرد الذي كان يلفح وجوههم. وعند الخامسة تقريباً، كان الدرب قد أُقفل هو الآخر نحو المرقد، حيث سبق المشيّعون السيّد إلى هناك وانتظروه في اللقاء الأخير.