حزب الله يعيد رسم المشهد..

من الضربة الكبرى إلى إستعراض القوّة في التشييع المليوني

خاص الوفاق: كانت هناك تقديرات من العدو بأنّ الجمهور الشيعي في لبنان قد بدأ بالابتعاد عن الحزب بسبب الحرب؛ لكنّ الحشد الكبير أكد عكس ذلك تمامًا

د. أكرم شمص

 

مقدمة: من التراجع إلى العودة بقوّة

 

على مدى 70 يومًا فقط، انتقل حزب الله من مواجهة واحدة من أعنف الضربات التي استهدفت قيادته إلى تنظيم واحدة من أكبر الفعاليات الجماهيرية في تاريخ لبنان، حيث حوّل تشييع أمينه العام الشهيد السيد حسن نصر الله إلى استعراض غير مسبوق للقوة السياسية والشعبية والتنظيمية.

 

كان الحدث أكثر من مجرّد وداع؛ لقد شكّل لحظة إعادة تأكيد للمعادلة التي تحكم الصراع مع العدو الصهيوني، ورسالة واضحة بأنّ الحزب لم يفقد تماسكه، بل ظهر أقوى مما توقع خصومه.

 

توقّع العدو الصهيوني، ومعه بعض القوى الداخلية والخارجية، أنّ اغتيال السيد نصر الله سيؤدي إلى إضعاف الحزب، أو على الأقل إلى تراجع حضوره الشعبي وإرباك بنيته التنظيمية؛ لكنّ التشييع الذي شارك فيه نحو 1.4 مليون شخص في بيروت جاء ليبدد كل هذه التوقعات، ويؤكد أنّ الحزب ليس مجرد كيان عسكري، بل منظومة متماسكة قادرة على استيعاب الضربات والعودة بسرعة إلى المشهد بقوة أكبر.

 

أولًا: التشييع ليس وداعًا، بل لحظة تثبيت للشرعية

 

لم يكن التشييع مجرد لحظة تأبين عاطفية لقائد راحل، بل كان بمثابة استفتاء شعبي ورسالة متعددة الأبعاد إلى الداخل اللبناني والخارج. فعندما تتحرك مئات الآلاف من مختلف المناطق، وتجتمع بهذا الحجم والانضباط، فهذا ليس مجرد حدث جنائزي، بل هو إثبات عملي أن الحزب لا يزال يتمتع بقاعدة شعبية راسخة، وأن استهداف قادته لا يضعف مشروعه بل يعزز الالتفاف حوله.

 

ما الذي جعل التشييع لحظة سياسية بامتياز؟

 

الزخم الجماهيري الهائل: خروج 1.4 مليون شخص في ظل تحديات أمنية وسياسية واقتصادية يعكس أن الحزب لا يزال يمتلك القدرة على الحشد والتعبئة، رغم كل الظروف.

 

الانضباط التنظيمي العالي: لم يكن هناك فوضى أو اختراقات أمنية، مما يعكس أنّ الحزب نجح في إعادة ترتيب صفوفه خلال فترة وجيزة، ولم يكن هناك أي خلل في بنيته الداخلية.

 

الحضور الإقليمي والدولي: مشاركة وفود من إيران، العراق، سوريا، اليمن، وممثلين عن تيارات يسارية وقومية معارضة لحلف الناتو، أظهرت أنّ الحزب لا يزال جزءًا أساسيًا من معادلة المقاومة الإقليمية.

 

ثانيًا: تحليق طائرات العدو الصهيوني.. من استعراض القوة إلى فشل الردع

 

في لحظة صادمة، وبينما كانت الحشود في ذروة التأثر العاطفي بالتشييع، حلقت طائرات العدو الصهيوني على ارتفاع منخفض فوق ملعب كميل شمعون، في محاولة لبث الرعب أو إرسال رسالة ردع؛ لكن ردّة فعل الجماهير جاءت معاكسة تمامًا؛ إذ لم يهرب أحد، بل تحولت لحظة الاستفزاز إلى لحظة تحدٍّ جماعي، حيث علت الهتافات: “الموت لإسرائيل.. الموت لأمريكا”، وهو مشهد وثّقته وسائل الإعلام الغربية وأثار ردود فعل واسعة.

 

لماذا فشل الاستفزاز الصهيوني؟

 

1- تحوّل لحظة الخوف إلى لحظة صمود: بدلاً من خلق حالة ذعر، أدى التحليق العدواني إلى تأجيج مشاعر التحدي، وأظهر أن المقاومة باتت راسخة ليس فقط ككيان سياسي، بل كحالة جماعية في الوجدان الشعبي.

 

2- تأكيد فشل رهان العدو الصهيوني: توقّع العدو الصهيوني أن يؤدي اغتيال السيد حسن نصر الله إلى تفكك الحزب أو على الأقل فقدانه للقدرة على الحشد؛ لكن المشهد أكد العكس تمامًا.

 

3- إثبات محدودية الردع الصهيوني: لو كان العدو الصهيوني قادر على إنهاء الحزب، لما لجأ إلى استعراض رمزي لا أكثر، دون قدرة فعلية على فرض واقع جديد على الأرض.

 

ثالثًا: خطاب نعيم قاسم.. إعلان استمرار المعركة لا نهايتها

 

جاء خطاب الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام الجديد لحزب الله، ليؤكد أنّ استشهاد القائد الأسمى السيد حسن نصر الله ليس نقطة ضعف، بل بداية مرحلة جديدة من المواجهة، حيث أعاد تثبيت الأسس التي حكمت المقاومة طوال العقود الماضية.

 

ما هي أبرز رسائل الخطاب؟

 

التأكيد على أن المقاومة لا ترتبط بشخص، بل هي مشروع مستمر، وأن الحزب لا يزال موحدًا وقادرًا على خوض أي مواجهة مستقبلية.

 

رفض الضغوط الداخلية والدولية لنزع سلاح الحزب، واعتبار هذا السلاح هو الضمانة الوحيدة لحماية لبنان من التهديدات الصهيونية.

 

الإشارة إلى أن استهداف القادة لن يؤدي إلى انهيار الحزب، بل إلى إعادة إنتاج قيادات جديدة قادرة على استكمال المسيرة.

 

 

رابعًا: كيف يمكن قراءة الحدث لدى العدو الصهيوني؟

 

تعكس تغطية العدو الصهيوني، وخاصة في وسائل الإعلام العبرية مثل “القناة 12” و”زمان إسرائيل”، أنّ التشييع كان بمثابة صفعة لعدو، حيث تبين أن رهاناته على تفكيك الحزب باءت بالفشل، وأنّ المقاومة استعادت توازنها بسرعة قياسية.

 

لماذا يمثل التشييع إرباكًا استراتيجيًا للعدو؟

 

1- التشكيك في فعالية الضربات العسكرية: إذا كان الهدف من الحرب هو إضعاف حزب الله، فالتشييع أثبت أن الحزب لم يتأثر جوهريًا، بل أعاد ترتيب صفوفه بقوة.

 

2- إظهار فشل الرهان على انهيار البيئة الحاضنة: كانت هناك تقديرات من العدو بأنّ الجمهور الشيعي في لبنان قد بدأ بالابتعاد عن الحزب بسبب الحرب؛ لكنّ الحشد الكبير أكد عكس ذلك تمامًا.

 

3- فرض معادلة جديدة في الردع: بعد هذا التشييع، بات العدو الصهيوني يدرك أنّ الحزب قادر على إعادة التموضع بسرعة، وأن أي مواجهة جديدة قد لا تحقق النتائج المرجوة.

 

خامسًا: ماذا يعني هذا للبنان؟

 

من الناحية الدبلوماسية، يمكن للبنان استثمار هذا الحدث للتأكيد على أنّ أي محاولات لعزل حزب الله أو فرض نزع سلاحه لن تنجح، لأنّ الحزب ليس مجرد ميليشيا، بل هو جزء من معادلة داخلية وإقليمية لا يمكن تجاوزها.

 

كيف يمكن للبنان استغلال الحدث دبلوماسيًا؟

 

تأكيد أنّ الحل الوحيد للاستقرار يكمن في إنهاء الاحتلال الصهيوني للمناطق اللبنانية، بدلًا من الضغط الداخلي لنزع سلاح المقاومة.

 

إظهار أنّ المقاومة ليست خيارًا لفصيل معين، بل هي حالة شعبية عكستها الحشود في التشييع، ما يجعل أي قرار بشأنها يحتاج إلى توافق داخلي حقيقي.

 

تحويل الحدث إلى ورقة ضغط في المفاوضات الدولية، بحيث يصبح الحديث عن المقاومة جزءًا من تسوية إقليمية شاملة، وليس مجرد قضية داخلية لبنانية.

 

الخاتمة: حزب الله يعيد رسم المعادلة

 

على مدى 70 يومًا فقط، انتقل حزب الله من تلقي ضربة قاسية باغتيال قائده إلى إعادة فرض حضوره بقوة عبر حشد جماهيري غير مسبوق. كان التشييع أكثر من مجرد مراسم وداع، كان لحظة إعادة ترتيب للمشهد السياسي، ورسالة واضحة بأنّ الحزب لا يزال حاضرًا، وأنّ حسابات خصومه كانت خاطئة.

 

من هنا، يمكن القول إنّ الحزب لم يتراجع، بل عاد إلى الواجهة أكثر تنظيمًا، وأكثر قوة، وأكثر استعدادًا للمرحلة القادمة.

 

 

المصدر: الوفاق/خاص