الإتفاق الروسي الأميركي وتحولات المشهد الجيوسياسي العالمي

خاص الوفاق: أصبحت سلاسل الإمداد العالمية تحتل مكانة استراتيجية في تخطيط أولويات السياسة الخارجية لمعظم الدول في الوقت الحالي، نظرًا لتأثيرها الكبير على الاقتصاد العام للدولة وما يترتب عليها من تداعيات إقليمية وعالمية

د. مسعدة ناصر باحثة في العلاقات الدولية

 

بعد مرور ثلاث سنوات على الحرب الروسية الأوكرانية وما خلفته من خسائر في كلتا الدولتين على الصعيدين البشري والاقتصادي، ها نحن اليوم نجد هذه الحرب قد وضعت أوزارها جانبًا، متجهة نحو إعادة صياغة المشهد الدولي والتحالفات الدولية من جديد بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. فخصم الأمس (روسيا) قد يصبح الحليف (للولايات المتحدة الأميركية في العهد الجديد) بعيدًا عن أي اعتبارات للحليف الأساسي أو المصطنع (أوكرانيا)، لا سيما بعد التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة من قبل الولايات المتحدة إلى جانب روسيا على القضية ضد الأوروبيين، وهو ما لم تفعله الصين حيث امتنعت عن التصويت. وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول الدافع وراء التقارب الروسي الأميركي، وكذلك الدافع من اتفاق المعادن بين أميركا واوكرانيا وانعكاسات الحملة الانتخابية قبيل الانتخابات الاميركية على مواقف ترامب .

 

انعكاسات الحملة الانتخابية على مواقف ترامب تجاه أوكرانيا

 

بعد مراجعة المشادة الكلامية بين الرئيسين الأميركي والأوكراني في الولايات المتحدة داخل المكتب البيضاوي، نلاحظ أهمية الحملة الانتخابية لدى الإدارة الأميركية الجديدة وانعكاساتها في إعادة النظر بحلفائها. فقد توجه نائب الرئيس الأميركي الحالي، جي دي فانس، ببعض الاتهامات إلى الرئيس الأوكراني حول زيارته إلى بنسلفانيا، مخاطبًا إياه: “قمت بحملة انتخابية ضد الرئيس دونالد ترامب، والآن هذا الرئيس ترامب يحاول أن ينقذ بلدك”. ثم عاد الرئيس الأميركي ترامب في نهاية اللقاء ليشدد على احترام بوتين له، مؤكدًا أنه خاض معه معركة عندما هاجموه انتخابيًا، كما أنه عانى مع الديمقراطيين الذين اتهموا روسيا بالتدخل في الانتخابات الأميركية، مشيرًا إلى أنه بريء من تلك الاتهامات. كما لم يتوانَ عن توجيه الاتهامات بالفضائح إلى الرئيس السابق جو بايدن. يعكس هذا التصرف مدى حقد ترامب على الرئيس الأوكراني نتيجة لدعم الأخير لمنافسه قبيل الانتخابات الأميركية، وقد ظهرت تجليات هذا الموقف من خلال اتجاه ترامب إلى اتفاق مع روسيا، محاولًا إرغام أوكرانيا على وقف إطلاق النار وفقًا لشروط تلائم روسيا وتخفف عبء الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا، دون تقديم ضمانات أمنية صريحة لها. وركز ترامب فقط على عقد صفقة المعادن الأوكرانية-الأميركية بغض النظر عن رضا الأطراف الأوروبية. وتُظهر ردود فعل ترامب تجاه دعم زيلنسكي لمنافسه في الانتخابات تركيز الإدارة الأميركية الجديدة على المصالح الاقتصادية فوق أي اعتبار، حتى لو كان ذلك على حساب الحلفاء القدامى للإدارات الأميركية السابقة، بالإضافة إلى عوامل أخرى أساسية تؤثر في رسم سياسة أميركا الخارجية وبناء تحالفاتها.

 

دور سلاسل الإمداد العالمية في إعادة تشكيل العلاقات الدولية والنظام الدولي

 

أصبحت سلاسل الإمداد العالمية تحتل مكانة استراتيجية في تخطيط أولويات السياسة الخارجية لمعظم الدول في الوقت الحالي، نظرًا لتأثيرها الكبير على الاقتصاد العام للدولة وما يترتب عليها من تداعيات إقليمية وعالمية. وقد أدى النزاع القائم بين روسيا وأوكرانيا إلى إحداث اضطرابات هائلة في سلاسل إمدادات الغذاء والطاقة، مما أسفر عن ارتفاع ملحوظ في معدل التضخم العالمي. جاءت هذه التداعيات نتيجة للتوترات الجيوسياسية التي أثرت على حركة السلع والخدمات، إضافة إلى العقوبات والقيود التجارية التي ساهمت في تعطيل تلك السلاسل الحيوية. وفي المقابل، يعزز التعاون الدولي من مرونة سلاسل الإمداد، مما يدفع الدول إلى تنويع مورديها بهدف الحفاظ على مكانتها الاقتصادية العالمية.

 

أبعاد التقارب الروسي الأميركي وأهدافه الاستراتيجية

 

في سياق المباحثات الروسية الأميركية التي استضافتها الرياض، تم التوصل إلى اتفاق للعمل على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، مع السعي إلى تشكيل فرق للتفاوض لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية. ويبدو أن أحد أبرز دوافع التقارب الروسي الأميركي هو تعزيز العلاقات الاقتصادية مع روسيا. فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، المعروف بكونه رجل الصفقات الاقتصادية، يسعى إلى تحقيق الاستقرار في العلاقات الروسية الأميركية وخلق منافع متبادلة، خاصة في أسواق الطاقة.

 

تأتي هذه الخطوة في ظل النفوذ الكبير الذي تتمتع به الصين، الحليف الأساسي لروسيا، على المستوى الاقتصادي، خصوصًا في مجال الموارد المعدنية الضرورية للصناعات ذات التقنية العالية، مما يمنحها سيطرة كبيرة على سلاسل التوريد العالمية لهذه المواد. كما أن الشراكة بين الصين وروسيا تؤثر بشكل مباشر على النظام الدولي، حيث تدفع باتجاه التحول من النظام أحادي القطب إلى نظام متعدد الأقطاب.

 

تُعد الصين والولايات المتحدة قطبين مؤثرين على الاقتصاد العالمي، وهو ما يعزز التنافس بينهما للهيمنة الاقتصادية العالمية. وقد انعكس هذا التنافس في سعي الولايات المتحدة إلى عقد اتفاق للمعادن مع أوكرانيا، التي تمتلك 5% من موارد العالم المعدنية، بما في ذلك المعادن النادرة التي تُستخدم في الصناعات الحيوية مثل الرقائق والمحركات والتقنيات المتقدمة.

 

تمثل الثروات الطبيعية لأوكرانيا فرصة استراتيجية كبيرة، خصوصًا أن الصين تسيطر على 60% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا. وفي حال نجحت الولايات المتحدة في الحصول على الحق في استخراج هذه المعادن، فإنها ستكتسب قوة اقتصادية كبيرة في مجالات الصناعة التكنولوجية والطاقة، مما يجعلها منافسًا رئيسيًا للصين.

 

ومع ذلك، يبقى ارتباط صفقة المعادن الأوكرانية الأميركية مشروطًا بالضمانات الأمنية المقدمة لأوكرانيا، وهو ما يعكس تعقيدات المشهد الجيوسياسي وعمق الحسابات الاستراتيجية للإدارة الأميركية.

 

استنتاجات.. تبدل الموقف الأميركي ودوافعه الاستراتيجية

 

بناءً على ما تقدم، ومن خلال مقاربتنا للتطورات على الساحة الدولية التي أفضت إلى السعي نحو اتفاق روسي أميركي، نجد أن الموقف الأميركي قد تبدل نتيجة لعدة اعتبارات وتحت عدة مسميات، من أبرزها:

 

  • إحلال السلام: سعي الإدارة الأميركية إلى إحلال السلام في الدول التي دعمتها سابقًا، نظرًا لأن الحروب تتعارض مع النهوض الاقتصادي بسبب تكاليفها الباهظة.
  • التغيير في دعم أوكرانيا: تبدل موقف الإدارة الأميركية الحالية تجاه دعم أوكرانيا، خاصة أن الرئيس الأوكراني قاد حملة انتخابية غير داعمة للرئيس ترامب.
  • التنافس مع الصين: مركز الصين القوي في الاقتصاد العالمي، خصوصًا من خلال سيطرتها على المواد المعدنية الأساسية للصناعات ذات التقنية العالية، مما يعزز مكانتها الاقتصادية وينعكس على سلاسل الإمداد التي تعتبر بدورها العمود الفقري للتجارة الدولية.

 

ورغم حدة الخطاب الأميركي تجاه الرئيس الأوكراني، والذي يظهر عدم مبالاة أميركا بالمعادن الأوكرانية، يبقى السؤال مطروحًا:هل يعكس هذا الموقف اتفاقًا روسيًا أميركيًا للاستحواذ بشكل ثنائي على المعادن في الأقاليم التي تسيطر عليها روسيا، تحت غطاء أميركي؟

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص