أكد رئيس مركز حوار الأديان والثقافات التابع لمنظمة العلاقات والثقافة الاسلامية في إیران خلال الكلمة التي ألقاها في النسخة الثانية من المؤتمر الدولي: “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية”، الذي انعقد يومي 6 – 7 مارس 2025م في مكة المكرمة أن بناءَ الجسورِ بينَ المذاهبِ الإسلاميَّةِ من أجلِ تحقيقِ الأمَّةِ الواحدةِ أمرٌ ضروريٌّ.
إنَّ توجُّه السعوديّة نحو التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، ودعوتها لعددٍ كبيرٍ من المفتين وعلماء المسلمين من المذاهب الأربعة لأهل السنّة، إلى جانب مشاركة بعض علماء الشيعة من إيران والعراق ولبنان والبحرين وإنجلترا، بالإضافة إلى رؤساء بعض الطرق الصوفية مثل الطريقة الجشتية في الهند، سيسهم في تعزيز أسس الوحدة الإسلاميّة وتقويتها.
إنَّ هذا التحوُّل لا يقلِّل من أهمية الجهود التي بذلتها الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة منذ انتصار الثورة الإسلاميّة في سبيل تعزيز التفاهم والتفاعل البنّاء بين المذاهب الإسلاميّة، بل على العكس، فإنه يفتح آفاقًا جديدةً للتعاون المثمر بين إيران والسعوديّة من أجل تحقيق وحدة الأمّة الإسلاميّة وترسيخ قيم الحوار والتقارب بين المسلمين.
سافر الدكتور علي أكبر ضیائي، رئيس مركز حوار الأديان والثقافات، إلى مكّة المكرّمة ممثِّلًا عن منظّمة الثقافة والعلاقات الإسلاميّة وبناءً على دعوةٍ رسميَّةٍ من المملكة العربيّة السعوديّة، حيث نقل تحيّات حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور محمد مهدي إيماني بور إلى نظيره السعودي.
تبيين الرسالة العالمية للعلماء في مؤتمر مكة
إنَّ المقاربة الجديدة للسعوديّة في مجال حوار الأديان جاءت في سياق سلسلةٍ من التحوّلات الملحوظة، والتي بدأت بزيارات الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى رئيس رابطة العالم الاسلامي إلى دول شرق آسيا والهند لتعزيز التواصل مع الهندوسيّة وسائر الأديان الشرقيّة، وتبعتها الخطوة الثانية المتمثِّلة في السعي إلى التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وإدانة ظاهرة التكفير، والتوجّه نحو تحقيق الوحدة الإسلاميّة. وهذه التحوّلات العميقة تعكس التغييرات الجوهريّة التي شهدتها المملكة خلال السنوات الأخيرة.
يُقدَّم هنا نصُّ كلمة الدكتور علي أكبر ضيائي، رئيس مركز حوار الأديان والثقافات:
“الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمَّدٍ وآلهِ الطيِّبينَ الطاهرينَ. أمَّا بعدُ، فإنّ بناءَ الجسورِ بينَ المذاهبِ الإسلاميَّةِ من أجلِ تحقيقِ الأمَّةِ الواحدةِ أمرٌ ضروريٌّ، وهو ما يجري تناوُلُه في هذه الأيَّامِ في مكَّةَ المكرَّمة. إنَّنا نعيشُ في عصرٍ تتَّجهُ فيه المسيحيَّةُ، بكلِّ طوائفِها ومذاهبِها، نحوَ الوحدةِ والاتِّحادِ، في حينِ أنَّ الإسلامَ، وهو الدِّينُ الحقُّ، قد ابتُلي بالتفرُّقِ والانقسام. ولا شكَّ أنَّ الاختلافَ أمرٌ طبيعيٌّ في نظامِ العالمِ، إذ لولا التنوُّعُ لما تحقَّقتِ الخيراتُ، ولكنَّ بعضَ هذه الخلافاتِ قد أدَّت إلى هدرِ طاقاتِ المسلمينَ وإراقةِ دمائِهم، ومن هنا ينبغي أن نحوِّلَ هذا الاختلافَ السلبيَّ إلى اختلافٍ إيجابيٍّ.
وأهمُّ وسيلةٍ لتحقيقِ هذا الائتلافِ الإسلاميِّ تمرُّ بثلاثِ مراحلَ أساسيَّة: المعرفة، والتعارف، والاعتراف. ففي المرحلةِ الأولى، لا بدَّ من توسيعِ معرفتِنا بالعالَمِ الإسلاميِّ وإمكاناتِه، وتوجيهِ وسائلِ الإعلامِ نحوَ التعريفِ بمقدَّراتِ المسلمينَ الدينيَّةِ والثقافيَّةِ والاقتصاديَّةِ والعلميَّةِ والتكنولوجيَّة، كما ينبغي توجيهُ الجيلِ الحاليِّ إلى التعرُّفِ على الثقافةِ الإسلاميَّةِ والعالَمِ الإسلاميِّ بدلاً من الاكتفاءِ بالثقافةِ الغربيَّةِ.
أمَّا المرحلةُ الثانيةُ، فهي التعارف، أي تعزيزُ الحوارِ بينَ علماءِ الإسلامِ من مختلفِ المذاهبِ، لأنَّ الحوارَ يُسهمُ في التعارفِ المتبادلِ بينَ الأطرافِ، ويُمهِّدُ الطريقَ للتعاونِ والتآزرِ فيما بينهم.
أما المرحلةُ الثالثةُ فهي الاعتراف، أي أن يقبل بعضُنا بعضًا كمنظومةٍ دينيَّةٍ ومذهبيَّةٍ قائمة، لا أن نكتفي بمجرَّد التحمُّل والتسامح. وهذه المرحلة لا تتحقَّق إلا بعد اجتياز المرحلتين السابقتين؛ لذلك، إذا لم تكن هناك معرفة متبادلة بيننا، ولم ننخرط في الحوار وتبادل الآراء، فلن نتمكَّن من الاعتراف الحقيقيِّ بالمذاهب الأخرى.
أودُّ هنا أن أوضِّح مسألة الاعتراف بشيءٍ من التفصيل، وذلك لأنَّ هناك خلافًا دائمًا بين المتكلِّمين حول تحديد المذاهب التي تُنسب إلى الإسلام، وتلك التي تُعدُّ خارجةً عنه. ومن هنا، لا بدَّ من تحديد موقفنا في هذا الموضوع بدقَّة: فهل الاعتراف يكون بالإقرار باللسان فقط، أم بالتصديق القلبي، أم بهما معًا، أم بالإقرار باللسان، والتصديق بالقلب، والعمل بأركان الإسلام؟
من الطبيعي أنَّ تبنِّي أيٍّ من هذه الآراء الثلاثة سيُخرج بعض المذاهب من دائرة الإسلام وفقًا للمعايير المعتمدة. ولكن إذا كنَّا من أهل التسامح، فسنكتفي بالإقرار اللفظي كمعيارٍ للاعتراف بإسلام مذهبٍ ما، بحيث نضمن وجود إجماعٍ عامٍّ في هذا الشأن. أمَّا إذا أردنا الالتزام بمواقف المدارس الكلاميَّة المختلفة، فحينها ينبغي إضافة التصديق القلبي أو العمل بأركان الإسلام ضمن معايير الاعتراف، ممَّا قد يُؤدِّي إلى تضييق دائرة الإسلام وتوسيع نطاق الاختلاف
ملاحظات حول شعار هذا المؤتمر: أولاً، ينبغي أن نحدِّد من الذي تقع على عاتقه مسؤولية بناء الجسور. فهل يقتصر هذا الواجب على علماء الدين وحدهم، أم أنّ العلماء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والطب وغيرها أيضاً يتحمَّلون مسؤولية المساهمة في إنشاء الجسور بين المذاهب؟ لا شكَّ أنَّ بناء جسور التواصل بين المذاهب الإسلاميَّة ليس مسؤولية دينيَّة فحسب، بل هو مهمَّةٌ تستدعي تضافر جهود جميع المفكِّرين والمتخصِّصين في مختلف المجالات.
ثانياً، كما أنَّ استقرار وثبات الجسور المادِّيَّة ضروريٌّ لضمان الاعتماد عليها، فإنَّ بناء الجسور بين المذاهب يجب أن يكون متينًا وقويًّا ليحظى بالثقة. لذا، ينبغي تحديد مقوِّمات هذه الجسور وبيان الأسس التي تُقام عليها، بحيث تكون مقبولة من جميع المذاهب الإسلاميَّة.
ثالثاً، وكما أنَّ أيَّ هيكلٍ يحتاج إلى قواعد متينة، فإنَّ هذه الجسور لا بدَّ أن تُبنى على أسس واضحة ومتينة تضمن استمراريتها. فإذا لم تكن دعائم هذه الجسور راسخة، فإنَّها قد تنهار عند أوَّل خلاف، ممَّا سيؤدِّي إلى مزيدٍ من التباعد والتفرقة. لذا، فإنَّ التعريف الدقيق بالمبادئ المشتركة، والتركيز على النقاط التي تجمع ولا تفرِّق، يُعدُّ من أهمِّ الخطوات في تحقيق هذا الهدف.
إنَّ الغموض في مسألة الاعتراف بالمذاهب الإسلاميَّة قد يُسهم إلى حدٍّ ما في تحقيق وحدة الأمَّة، حيث يُتيح مساحةً أوسع للتفاهم والتقارب. ومع ذلك، فإنَّ الاختلافات الجوهريَّة في الأصول ستبقى قائمة، ولن يكون من السهل تجاوزها بالكامل.
أرى أنَّ المراكز البحثيَّة التابعة للمملکة السعودیة ينبغي أن تتعاون مع المؤسَّسات العلميَّة الأخرى في مختلف البلاد الإسلاميَّة مثل الجمهوریة الاسلامیة الایرانیة ومن مختلف المذاهب في شرح وتفصيل ميثاق “بناء الجسور بين المذاهب الإسلاميَّة”. كما ينبغي أن تُسهم هذه الجهود المشتركة في إصدار نسخةٍ جديدةٍ من الميثاق تُزيل أيَّ غموضٍ قد يكتنف بعض مفاهيمه، مما يُعزِّز وضوحه ويُسهِم في تحقيق أهدافه بشكلٍ أكثر فاعليَّة”.
هذا يذكر أن النسخة الثانية من المؤتمر الدولي: “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية”، الذي انعقد يومي 6 – 7 مارس 2025م في مكة المكرمة، بمشاركة الأمين العام لرابطة العالم الاسلامي ،ورئيس هيئة علماء المسلمين الشيخ الدكتور محمد العيسى، وعضو مجلس خبراء القيادة في إيران آية الله الشيخ أحمد مبلغي، والأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية “الشيخ الدكتور حميد شهرياري”، وإمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور صالح بن حميد، ورئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس، والأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي د. مصطفى سانو، وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية د. يوسف بن سعيد، ومفتي صيدا اللبنانية الشيخ محمد عسيران، والمستشار الثقافي الايراني السابق لدى لبنان “الدكتور عباس خامه يار”، والداعية الدولي وأستاذ الحوزة العلمية والجامعة “الشيخ يحيى جهانغيري” وحشد من العلماء والشخصيات الاسلامية.
وتناول المؤتمر في نسخته الثانية أهم قضايا العالم الإسلامي التي تتطلب التعاون والعمل الديني المشترك، وفي مقدمة هذه القضايا التطورات الأخيرة في القضية الفلسطينية، والوضع في سوريا، والقضايا المتعلقة بالأقليات المسلمة، كما تم خلال المؤتمر مناقشة وبحث آخر القضايا المتعلقة بالحوار الإسلامي ومسيرة الحوار بين الإسلام وأتباع الديانات الأخرى، بالإضافة إلى عدد من القضايا الملحة الأخرى في العالم الإسلامي.