د.اكرم شمص
من على منبر الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل مفجّر الثورة الإسلامية الإمام روح الله الخميني (قدس)، قدّم الإمام السيد علي الخامنئي خطابًا ليس استذكارًا فقط، بل إعلانًا واضحًا بأن الثورة باقية ومستمرة، لا تحني رأسها أمام الضغوط ولا تساوم على المبادئ، خطابًا لافتًا تميّز بنبرته الحاسمة ومضامينه الاستراتيجية في لحظة تتداخل فيها ملفات التخصيب النووي، والمفاوضات غير المباشرة مع واشنطن، والعدوان الصهيوني الوحشي على غزة، وضع الإمام الخامنئي النقاط على الحروف، مقرًّا معادلات ثابتة في وجه عالم مضطرب.
التخصيب: ليس خيارًا… بل مبدأ وجود
أهم ما جاء في الخطاب هو تأكيد القائد الأعلى أن تخصيب اليورانيوم هو “مفتاح” القضية النووية الإيرانية، وأنه غير قابل للتفاوض أو التنازل. الخطاب قطع الطريق على أي رهان خارجي أو داخلي يروّج لمعادلة “تنازلات مقابل رفع العقوبات”، إذ ربط القائد التخصيب بالاستقلال، بل وصفه كأحد أركان الثورة المعاصرة. وسأل بوضوح: “من أنتم لتقرّروا إن كان علينا امتلاك برنامج نووي أم لا؟” موجّهًا الحديث للإدارة الأميركية.
وهنا، لم يكن الإمام الخامنئي يتحدث عن التكنولوجيا فقط، بل عن الكرامة الوطنية، رافضًا أي وصاية تقنية أو سياسية. فرسالة إيران: لسنا بحاجة لوقود أحد، ولسنا مستعدين لتحويل علمائنا وباحثينا إلى عاطلين فقط لإرضاء “الوقاحة الأميركية”.
“نحن نستطيع”: شعار الثورة وهدف الاستهداف
استعاد الإمام الخامنئي في خطابه شعار “نحن نستطيع”، الذي زرعه الإمام الخميني(قدس) في وجدان الشعب الإيراني، ليجعله محور المواجهة الحالية مع المشروع الأميركي–الصهيوني. فرسالة الخطاب الأساسية واضحة: إيران لن تتنازل عن حقها في امتلاك التكنولوجيا النووية، ولا سيما التخصيب الذي اعتبره القائد “جزءًا أساسيًا من البرنامج النووي”، مؤكدًا أن “الصناعة النووية بلا تخصيب لا فائدة فيها”.
في هذا السياق، رفض الإمام الخامنئي المقترح الأميركي الذي يُناقش في مفاوضات غير مباشرة بوساطة عمانية، معتبرًا أنه “يتناقض مئة في المئة مع شعار نحن نستطيع”، لأنه يسعى لحرمان إيران من استقلالها التقني والسيادي، والإبقاء عليها دولة تابعة في مجالات حيوية مثل الطاقة وتحلية المياه والنظائر المشعة.
بالمقابل، قدّم الامام الخامنئي إيران كنموذج فريد بين دول العالم، إذ باتت ضمن نخبة محدودة تمتلك دورة وقود نووي كاملة، قادرة على استخراج وتصنيع وتشغيل الطاقة النووية، وهو إنجاز يضعها في مصاف الدول الكبرى، رغم الحصار، بل بفضل الحصار والمواجهة.
المقاومة… أصل في الاستقلال لا خيار تكتيكي
الموقف الإيراني الذي أعلنه الإمام بوضوح هو أن الملف النووي شأن داخلي إيراني لا علاقة للولايات المتحدة به، مضيفًا بسخرية: “قلنا للطرف الأميركي: ما شأنكم أنتم؟ الشعب الإيراني هو من يقرر”. هذه الجملة تختصر جوهر الصراع مع واشنطن: ليس فقط على الكيلوغرامات المخصبة، بل على حق إيران في تقرير مصيرها وبناء مشروعها العلمي والحضاري المستقل.
الخطاب لم يكن نوويًا فقط، بل امتد إلى الهوية السيادية والمواجهة السياسية والعسكرية. تحدث الإمام الخامنئي عن ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية، رابطًا ذلك مباشرة بفكرة الاستقلال الوطني، مؤكدًا أن المقاومة ليست خيارًا تكتيكيًا بل ضرورة استراتيجية أمام إرادة الهيمنة الغربية.
وفي هذا السياق، شدد على أن رفع مستوى الردع الدفاعي هو الذي وضع إيران في المرتبة الأولى في المنطقة، منوّهًا بأن الاستقلال لا يعني الانغلاق، بل “ألا ننتظر الضوء الأخضر من أميركا وأمثالها”، وهذه العبارة تصلح لتكون عنوانًا للسياسة الإيرانية المعاصرة.
غزة… الجرح المفتوح في ضمير الأمة
كما في كل خطاباته، كانت فلسطين وغزة في قلب الكلمة. الإمام الخامنئي وصف جرائم العدو الصهيوني في غزة بـ”المروعة والمذهلة”، مؤكدًا أن الاحتلال لا يكتفي بالقصف بل يمارس القتل الفردي بالرصاص، معبرًا عن “الخسة والدناءة” التي بلغها هذا الكيان. لكنه لم يكتفِ بالإدانة، بل حمّل أميركا المسؤولية المباشرة، واصفًا إياها بـ”الشريكة في الدماء”، ومطالبًا بخروجها من المنطقة ، وداعيًا الدول الإسلامية إلى تحمّل مسؤولياتها. كما أدان بشدة مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، واصفًا إياه بأنه “عارٌ خالد” ستدفع ثمنه كل دولة تورطت فيه، مؤكدًا أن “الكيان الصهيوني لن يستطيع توفير الأمان لأي دولة في المنطقة”، لأن سقوطه “أمر إلهي حتمي“.
خلاصة المشهد: إيران لا تفاوض على الكرامة
كلمة الإمام الخامنئي جاءت كموقف شامل واستراتيجية شاملة، اختزلت التحديات وطرحت الإجابات. فمن البرنامج النووي، إلى الدفاع، إلى فلسطين، أطل القائد من على منصة الذكرى ليقول: الثورة ليست ذكرى بل مشروع مستمر، وأن ما بدأه الإمام الخميني، باقٍ وفاعل، لا تشتريه التسويات، ولا تُرهبه العقوبات، ولا توقفه التهديدات.
في محصلة الخطاب، بدا واضحًا أن إيران ما زالت متمسكة بثوابتها التي وضعها الإمام الخميني، وأن القيادة الإيرانية لا تنظر إلى المفاوضات كبديل عن المقاومة، ولا إلى الدبلوماسية كبديل عن السيادة.
وكلمة الإمام الخامنئي، في توقيتها ومضمونها، لم تكن فقط تكريمًا لروح الإمام الراحل، بل تجديدًا للبيعة مع نهجه، وتثبيتًا لمحور المقاومة في لحظة يتسابق فيها الآخرون إلى الانهيار والتطبيع. إنها ليست ذكرى رحيل فحسب، بل تجديد ولادة لروح الثورة والمواجهة.
خطاب القائد كان بيانًا سياسيًا-استراتيجياً شاملاً في لحظة مفصلية:
- رفض قاطع للمقترحات الأميركية في الملف النووي.
- تأكيد على حق إيران في التخصيب واكتفاءها الذاتي.
- هجوم صريح على سياسات أميركا والكيان الصهيوني.
- تبنٍّ واضح لخيار المقاومة والتصدي للتطبيع.
- إشادة بدور العلماء والشباب كمحور للسيادة المستقبلية.
هذا الخطاب يعكس أن الجمهورية الإسلامية لا تساوم على ثوابتها، وأنها تقرأ التحديات الإقليمية والدولية من منطلق رؤية استراتيجية تنطلق من الثورة وتصبّ في مشروع نهضوي مقاوم. وفي زمن تتهاوى فيه عواصم أمام رياح التطبيع والتفكك، كانت طهران في خطاب القائد الخامنئي القلعة الثابتة، والرسالة الأوضح: “نحن نستطيع… وسنواصل”.