الناتو يستعرض قوته

مناورات بحرية كبرى في بحر البلطيق في ظل توتر متصاعد مع موسكو

تعكس التوترات المتزايدة في بحر البلطيق تحولًا في الاستراتيجيات العسكرية العالمية، إذ تسعى الدول الغربية إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، بينما تعمل روسيا على تأمين مصالحها البحرية

 في سياق تصاعد التوترات الأمنية والعسكرية بين روسيا وحلف الناتو، خرجت تصريحات روسية تكشف عن الرؤية التي تتبناها موسكو تجاه مناورات الناتو البحرية في بحر البلطيق. فقد أعلن نائب وزير الخارجية الروسي «ألكسندر غروشكو» عن الهدف الحقيقي وراء هذه التدريبات البحريّة؛ إذ يُقيم النشاط العسكري للناتو كجزء لا يتجزأ من التحضيرات لمواجهة عسكرية محتملة مع روسيا، واستراتيجية تهدف إلى تحقيق التفوق الشامل على الأصعدة البرية والبحرية والجوية.
 

 

السياق التاريخي والتحولات الجيوسياسية

 

 

منذ عام 1972، تُجرى مناورات بحرية سنوية تحت اسم «بالتوبس»، التي تُعد رمزًا للإعداد العسكري والتنسيق بين الدول الأعضاء في الناتو. وفي هذا العام بدأت يوم الخميس في الخامس من شهر حزيران/يونيو  مناورات «بالتوبس 2025» البحرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في بحر البلطيق، وسط تصعيد متزايد بين روسيا والدول الغربية.هذه المناورات، التي تستمر لمدة أسبوعين، تُعد واحدة من أكبر التدريبات العسكرية البحرية في المنطقة، إذ تشارك فيها 50 سفينة وأكثر من 25 طائرة ونحو 9 آلاف جندي من 17 دولة بقيادة الولايات المتحدة، وتُشير المعلومات الجديدة إلى أن هذه التدريبات لا تقتصر على العرض التقليدي للقوة، بل تتضمن أيضًا استعراضًا للتقنيات الحديثة. فمن بين هذه التقنيات أنظمة الحرب الإلكترونية والتشويش إذ  تُستخدم المعدات المتطورة لكشف واعتراض الإشارات، مما يعكس انتباه الناتو لتحصين شبكاته الاتصالية ضد الهجمات السيبرانية، وكذلك «الدرونز البحرية» والتي تدخل في مشهد الاستطلاع والمراقبة للمساعدة في جمع المعلومات الهامة ومراقبة نقاط الضعف لدى الخصم. هذا ويكتسب بحر البلطيق أهمية نوعية كونه يشكل حلقة وصل استراتيجية بين أوروبا وروسيا. ويُعد هذا التحول في التكوين العسكري للناتو جزءًا من إعادة تشكيل النظام الأمني في المنطقة، مما يزيد من حساسية الموقف ويستدعي إعادة تقييم الأطر الدفاعية في ضوء استراتيجيات ردع جديدة.

 

 

الموقف الروسي؛ استفزاز أم استعداد لمواجهة؟

 

 

أعربت روسيا عن رفضها لهذه المناورات، إذ وصفها نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو بأنها «استفزازية للغاية» وتهدف إلى تحقيق التفوق العسكري في جميع المجالات البرية والبحرية والجوية.  وأكد غروشكو أن موسكو تعتبر هذه الأنشطة جزءًا من استعدادات الناتو لصراع عسكري محتمل مع روسيا، هذا التصعيد العسكري يُعزز المخاوف الروسية من توسع الحلف في المناطق القريبة من حدودها، خاصةً بعد انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، مما زاد من عزلة روسيا في بحر البلطيق. ويتضح من تصريحات «غروشكو» أن الهدف الاستراتيجي لهذه المناورات ليست عسكرية فقط، بل هو تحقيق نوع من «التفوق الشامل» على الأصعدة الثلاثة؛ فمن الناحية البرية تُمارس التدريبات على تجهيز القوات وتحريكها بكفاءة، وعلى الصعيد البحري يتم استعراض القدرات العسكرية الخاصة بأنشطة الأساطيل والنشر البحري، بينما تبرز الأبعاد الجوية عبر اختبار تكامل الردع بالدعم الجوي. وبهذه الطريقة، يسعى الناتو إلى إرسال رسالة واضحة بأنّه قادر على الرد على أي تهديد، حتى وإن كانت تلك الردود تستهدف روسيا نفسها.

 

 

رد الفعل الغربي؛ الدفاع أم الردع؟

 

 

من الممكن أن التوترات الناتجة عن هذه المناورات تؤثر سلبًا على أي محاولات للحوار بين روسيا والناتو. فموسكو ترى أن الحلف يتجاهل مخاوفها الأمنية، بينما تؤكد الدول الغربية أن هذه التدريبات ضرورية لتعزيز الدفاع المشترك وردع أي تهديدات محتملة، فقد أكدت البحرية الألمانية أن «بالتوبس» تُعد جزءًا محوريًا من استراتيجية الدفاع في بحر البلطيق، مشيرةً إلى أنها تهدف إلى إظهار قدرة الحلف على حماية مصالحه البحرية في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية.

 

 

تزامن المناورات وخطر التصعيد

 

 

لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي، بالتزامن مع تدريبات الناتو، تجري البحرية الروسية مناورات عسكرية واسعة النطاق في بحر البلطيق، بمشاركة أكثر من 20 سفينة حربية، وزوارق، وسفن دعم، بالإضافة إلى 25 طائرة ومروحية، وأكثر من 3 آلاف جندي.هذه التدريبات تهدف إلى اختبار قدرة الأسطول الروسي على الدفاع عن قواعده البحرية، وسط تصاعد النشاط العسكري في المنطقة. هذا وقد أشارت صحيفة «بيلد» الألمانية إلى أن تزامن مناورات روسيا مع تدريبات الناتو يزيد من خطر التصعيد، ما يضع الموقف العسكري في بحر البلطيق على حافة مواجهة محتملة. فهذا التداخل في الجداول الزمنية للمناورات يعطي انطباعاً بوجود جدليات استراتيجية تؤجج المخاوف حول احتمال اندلاع نزاع أوسع بعد فترة طويلة من التوتر.

 

 

تصعيد أم ردع؟

 

 

التصعيد العسكري في بحر البلطيق يأتي في وقتٍ حساس، إذ تتزايد الاتهامات المتبادلة بين روسيا والناتو. بعض المحللين يرون أن هذه المناورات تعكس استعدادًا لمواجهة محتملة، بينما يرى آخرون أنها مجرد استعراض للقوة في إطار الردع الاستراتيجي، في ظل هذه الأجواء المشحونة، يبقى السؤال: هل ستؤدي هذه التحركات إلى تصعيد أكبر، أم أنها ستظل ضمن نطاق المناورات العسكرية التقليدية؟

 

 

تأثير التوترات على التجارة والطاقة

 

 

بحر البلطيق يُعد ممرًا استراتيجيًا للتجارة والطاقة، إذ تمر عبره شحنات ضخمة من النفط والغاز الروسي إلى أوروبا. التصعيد العسكري في المنطقة قد يؤثر على حركة التجارة البحرية، مما يرفع تكاليف التأمين ويزيد من مخاطر النقل البحري. كما أن أي مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى اضطرابات في إمدادات الطاقة، خاصةً مع استمرار العقوبات الغربية على روسيا.

 

 

إعادة تشكيل التحالفات

 

 

التوترات المتزايدة في بحر البلطيق تعكس تحولًا في الاستراتيجيات العسكرية العالمية، إذ تسعى الدول الغربية إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، بينما تعمل روسيا على تأمين مصالحها البحرية. انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو زاد من تعقيد المشهد، إذ أصبحت روسيا الدولة الوحيدة بين الدول المطلة على بحر البلطيق التي ليست عضوًا في الحلف، مما يعزز مخاوفها من العزلة الاستراتيجية.

 

 

هل نحن أمام مواجهة مباشرة؟

 

 

رغم استمرار المحادثات الدبلوماسية، فإن التصعيد العسكري يضعف فرص التوصل إلى اتفاق. بعض الخبراء يرون أن روسيا بدأت تتحدث عن حدود الدولة بشكلٍ أكثر وضوحًا بعد هذه التطورات، مما قد يفتح المجال أمام صفقة سياسية مستقبلية. ومع ذلك، فإن استمرار الهجمات المتبادلة يجعل من الصعب تحقيق تقدم ملموس في المفاوضات. في نهاية المطاف، تُظهر تصريحات وزارة الخارجية الروسية أن النزاع العسكري والسياسي في بحر البلطيق ليس مجرد تمرين عسكري دوري، بل هو ساحة لصراع سياسي واستراتيجي أكثر تعقيداً، يتضمن تحضيرات مكثفة من كلا الطرفين. إن تبني موسكو لموقف يعتبر مناورات الناتو تحضيراً لمواجهة عسكرية يعكس التوتر المزمن بين الأنظمة الروسية والغربية.

 

 

 

 

المصدر: الوفاق