من بين آلاف القبور في روضة شهداء “بهشت زهرا (س)” أي “جنة الزهراء(س)”، يبرز قبر الشهيد مصطفى شمران بتميّزٍ خاص؛ قبر تزيّنه ألوان العلم الإيراني الأخضر والأبيض والأحمر، وقد نُقش عليه اسم الجلالة “الله”، في صورةٍ تُجسّد راية الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إن روضة شهداء جنة الزهراء (س) هي موطنٌ يرقد فيه الصفوة من عباد الله في هذا العصر، ثمرةُ جهد آباءٍ وأمهاتٍ ربّوا أبناءهم على الحلال، وعلى نهج الإسلام وأهل البيت(ع)، حتى بلغوا الغاية الأسمى.
لكن من بين هؤلاء الشهداء، هناك من سبق غيره في عشق الله، وسار في هذا الطريق بيقينٍ أعمق، وكان في حياته شمعةً تدور حولها الفراشات، وكان له من المحبة في قلوب الناس ما جعل زائريه أكثر من سائر الشهداء، كما كان حضوره في الحياة أكثر إشراقًا.
ومن بين هؤلاء، الشهيد القائد مصطفى شمران، الذي تمرّ اليوم السبت 21 يونيو، أكثر من أربعة عقود على استشهاده؛ رجلٌ عظيم لم تبكِه فقط أهواز وخوزستان وباوه، بل الأمة الإسلامية في إيران، وشيعة لبنان المحرومين، بل والمستضعفون والمظلومون في العالم بأسره.
وُلد مصطفى شمران عام 1932 م في طهران، وتميّز بذكاءٍ لافتٍ ونبوغٍ مبكر جذب انتباه الجميع. أكمل دراسته في ثانوية البرز ودارالفنون، ثم التحق بكلية الهندسة في جامعة طهران، تخصص الهندسة الكهروميكانيكية، وكان خلال دراسته من الناشطين البارزين في حركة تأميم النفط.
ذهب هذا المجاهد في سبيل الحق إلى جامعة بيركلي في كاليفورنيا بمنحة دراسية، وهناك أسّس مع عدد من زملائه الاتحاد الإسلامي للطلبة، مما دفع نظام الشاه المقبور إلى قطع منحتِه.
لكن ذلك لم يُثنه عن مواصلة دراسته، فواصل أبحاثه العلمية وسط أشهر علماء العالم، ونال درجة الدكتوراه في الإلكترونيات وفيزياء البلازما بأعلى مرتبة علمية.
واصل الشهيد مصطفى شمران نضاله السياسي، وواصل تنظيمه للمظاهرات وقيادته لحركات الطلاب ضد نظام الشاه المقبور أمام مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، وسفارة إيران في واشنطن، والقنصليات الأخرى، في سلسلة من الأنشطة التصعيدية.
قضى طفولته ودراسته الابتدائية في مدرسة “انتصاريه”. قد يظن البعض أنّ من سمعوا بسمعته يظنون أنه كان يحصل دائمًا على أعلى الدرجات منذ صغره، لكن الحقيقة أنّه لم يكن يُعطي الدراسة اهتمامًا كبيرًا في بدايته، ولم يكن يهتم بالدرجات. لكن كلّ شيء تغيّر بعد أن شارك في جلسة قرآنية، حيث أدرك أن التفوق العلمي والتميز الدراسي هو بحد ذاته تجلٍ جميل للإسلام.
الدروس التي تلقّاها جعلته يفهم أنّ المسلمين ينبغي أن يتألّقوا في جميع الميادين: العلمية والروحية على حدّ سواء، وأنه إن لم يبرعوا في علوم الدنيا، فلن يرى العالم الوجه الحقيقي للإسلام.
رغم أن تخصصه في الهندسة الكهروميكانيكية كان معقّدًا وقلّة من الناس كانوا يفهمون عمقه العلمي، إلا أنّ تألّقه جذب أنظار الجامعات الغربية. تلقّى رسالة من جامعة تكساس تُخبره بقبوله ومنحه منحة دراسية.
ومع أنّه لم يكن راغبًا بالسفر إلى أمريكا لأن روحياته لم تكن تنسجم مع بيئتها، فإنّ إيمانه بهدفه الأكبر—وهو نشر الرسالة الإسلامية للعالم—دفعه للمضي.
قرر في نهاية المطاف الالتحاق بالجامعة لأنّ هذا الطريق كان متوافقًا مع رسالته وهدفه الأسمى.
الصفات الأخلاقية للشهيد شمران
من أبرز صفاته في حياته: التواضع، والقدرة على اتخاذ القرارات الصائبة، والحرية الداخلية، ونصرة المظلومين.
كان الشهيد مصطفى شمران متواضعًا بحق، إذ هدم جميع جسوره مع عالم العلم والتكنولوجيا ليتمكّن من خدمة المسلمين في أنحاء العالم، وواجه طغاة هذا الزمان بصدره وروحه.
ولفهم حجم تضحياته، يكفي أن نُقارن بين الحركات التي أطلقها في دول مختلفة وبين قادة كبار من أمثال غاندي، وموسى الصدر، ونلسون مانديلا، الذين احتاجوا لسنوات طويلة من التجربة لبدء مثل تلك الثورات.
استشهاد الشهيد شمران
أثناء الحرب بين إيران ونظام صدام المقبور، كانت منطقة دهلاويه بالقرب من سوسنگرد قد فقدت أحد أفضل قادتها، وهو الشهيد رستمي، الصديق المقرب من الشهيد شمران. عندما رأى شمران تدهور الروح المعنوية للمجاهدين هناك، سارع بإرسال أحد أبرز قادته لتعزيز الصفوف، لكنه مع ذلك أراد أن يذهب بنفسه ليرى الواقع ميدانيًا.
في يوم العملية، كان الشهيد شمران حاضرًا. وصلوا إلى موضع قريب جدًا من الحدود، بحيث كان بإمكانهم رؤية العدو بالعين المجردة. وفيما كانت القوات تستعد للهجوم، بدأ القصف الجوي العراقي المفاجئ، فقام الشهيد بتفريق الجنود لتفادي الإصابة، واحتمى مع اثنين من رفاقه داخل خندق.
في صباح يوم 21 يونيو 1981 م، وبينما كان القصف قد هدأ، سقطت قذيفة خلف خندقهم مباشرة، فأصاب شظاياها رأس الشهيد چمران، بينما أُصيب رفيقاه إصاباتٍ بالغة في الرأس والصدر.
اختلط كل شيء؛ أجواء مشوشة، ارتباك، ودماء. وعندما وجدوه، نُقل بسرعة إلى سيارة إسعاف نحو مستشفى سوسنگرد، لكن العدد الكبير من الجرحى والإمكانيات المحدودة منعت تقديم أي علاج، فتمّ تحويله إلى أهواز. لكنّ جسده المُلطّخ بالدم فقط هو من وصل المستشفى… بعد أن سكن نبضه.
مقطع من وصية الشهيد چمران
“أيتها الحياة، أودّعكِ… أودّعك بكلّ ما فيكِ من جمال، بكلّ مظاهر جلالكِ وعظمتكِ، بكلّ جبالكِ وسماواتكِ وبحاركِ وصحاريكِ، أودّعك بكل كياني.”
“بقلبٍ مشتعل وحزين، أمضي نحو ربّي، وأُغمض عيني عن كل شيء. يا ساقيّ، أعلم أنكم رشيقتان، لطالما فُزتما في السباق، لطالما كنتم أوفياء، وأعلم أنكم تسرعون كالصاعقة نحو الشهادة عندما آمركم، لكن لديّ طموح أكبر… أريدكم أن تتحركوا بعلوّ همّتي، أن تكونوا بثبات عزيمتي الفولاذية، أن تكونوا بسرعة قراراتي ومخططاتي، احملوا جسدي الصغير، لكنه ثقيل بالآمال، والخرائط، والمسؤوليات، وانقلوه سريعًا إلى أي مكانٍ أختاره.”
“في هذه اللحظات الأخيرة من حياتي، احفظوا ماء وجهي. لقد خدمتموني سنواتٍ طويلة، أرجوكم، اجعلوا هذه اللحظة الأخيرة أروع لحظة لكم.”
“يا يديّ، كونوا قويّتين ودقيقتين، يا عينيّ، كونا حادّتَين وساهرتين، يا قلبي، تحمّل هذه اللحظات الأخيرة، يا أنفاسي، لا تتركوني ضعيفًا وذليلاً، تحلّوا بالقوة والصبر لبضعة لحظات فقط.”
“أعدكم، أنه بعد لحظات قليلة، ستنعمون براحة عميقة وأبدية، وستنالون السكينة التي طال انتظارها، وستُعوّضون عن عمرٍ شاقٍ وعن هذه اللحظات القاسية… فأنا، بعد لحظات، سأهبكم الراحة.”
رحم الله الشهيد مصطفى شمران، الذي علّمنا أن التواضع والعلم والجهاد يمكن أن يجتمعوا في رجلٍ واحد.