وكتب الكاتب و الصحفي الايراني “محمد جواد أرويلي” في مقال له: في عصر المعلومات، لم تعد الحقيقة سهلة المنال ولا مفهومة دون تأويل. فالروايات المصنوعة من الكذب لا تُستخدم فقط لبدء الحروب، بل أيضًا لإعادة هندسة خريطة النفوذ الإقليمي وترسيخ هيمنة القوى الكبرى.
في فبراير عام 2003، وقف كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، أمام مجلس الأمن وهو يحمل قنينة صغيرة ادّعى أنها تحتوي على عينة من الجمرة الخبيثة، مدعمًا مزاعمه برسوم بيانية ووثائق مزوّرة، ليؤكد أن العراق يملك ترسانة سرية من أسلحة الدمار الشامل،حيث كانت تلك اللحظة التاريخية ذريعة لإشعال واحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين.
لكن الحقيقة لم تلبث أن انكشفت سريعًا. فقد اعترف كولن باول لاحقًا بأن المعلومات التي قدمها كانت غير صحيحة، وأنها في الواقع كانت جزءًا من أكبر عملية خداع إعلامي واستخباراتي لتبرير غزو العراق.
وبحسب تقديرات نشرتها المجلة الطبية المرموقة “لانسيت” عام 2006، ثم مؤسسة ORB عام 2007، فإن أكثر من 600 ألف مدني عراقي فقدوا حياتهم خلال هذه الحرب. وتحول بلد ذو حضارة تمتد لآلاف السنين إلى ساحة للفوضى والتطرف والحرب الأهلية.
بعد عشرين عامًا من غزو العراق، يتم تنفيذ نفس الاستراتيجية ولكن باسم وهدف مختلفين. هذه المرة، الهدف هو الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
لطالما استخدم الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون هذه الرواية: “إيران تجاوزت الخطوط الحمراء واقتربت من إنتاج قنبلة نووية”. وتُعاد هذه المزاعم إلى واجهة الإعلام مع كل جولة من التوترات السياسية.
والهدف من ذلك ليس مجرد الضغط الدبلوماسي، بل تمهيد الطريق لإجراءات عدائية مثل اغتيال العلماء النوويين، والتخريب في المنشآت، وتشديد العقوبات.
ومع ذلك، كشف تقرير رسمي صادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أبريل 2025 أن مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران لم يتجاوز 60%، وهو رقم لا يزال بعيدًا فنيًا وتقنيا عن مستوى 90% الذي يستخدم لصنع الأسلحة النووية.
لم تغادر إيران يومًا طاولة المفاوضات، بل كانت على الدوام طرفًا حاضرًا وفاعلاً في المسارات الدبلوماسية، ساعيةً لحل الخلافات عبر الحوار والتفاهم. وبرنامجها النووي لم يكن في يوم من الأيام خارج إطار الرقابة الدولية؛ فقد خضع باستمرار لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وسمحت إيران بدخول المفتشين إلى منشآتها النووية، بما يفوق أحيانًا المتطلبات القانونية.
وتجدر الإشارة إلى أن عملية تخصيب اليورانيوم بحد ذاتها ليست انتهاكًا لأي اتفاق دولي، بل هي حق سيادي مكفول لإيران وجميع الدول الأعضاء في معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، ما دامت هذه الأنشطة تتم في الإطار السلمي وتحت رقابة الوكالة.
إيران، إذًا، لم تسعَ لامتلاك سلاح نووي، بل لامتلاك التكنولوجيا النووية السلمية كما تفعل دول أخرى، لكن معايير الازدواجية التي يتعامل بها الغرب واتهامات لا تستند إلى دلائل، هي التي جعلت من هذا الملف أداة ضغط سياسي لا أكثر.
والحقيقة أن الغاية من إبقاء الأزمة قائمة ليست إزالة المخاوف المزعومة، بل ترسيخ الوجود العسكري الغربي في المنطقة، وزيادة مبيعات السلاح، والحفاظ على السيطرة الأمنية والاقتصادية في غرب آسيا. وكما حدث في العراق، فإن صناع القرار في الغرب بحاجة دائمة إلى ذرائع تُضفي الشرعية على تدخلاتهم.
كما يمكن رؤية نموذج واضح لهذه السياسات المزدوجة في التغطية الإعلامية للهجمات الأخيرة التي نفذتها إيران على قاعدة عسكرية قرب مركز “سوروكا” الطبي. فبمجرد وقوع الهجوم، سارع الكيان الصهيوني وعدد من الدول الغربية إلى إدانته واعتباره “جريمة حرب”.
لكن هذه الدول نفسها التزمت الصمت أمام قصف أكثر من 25 مستشفى في غزة على يد الكيان الصهيوني، وقتل الأطباء والمرضى والمسعفين.
ووفقاً لتقارير رسمية صادرة عن “هيومن رايتس ووتش” و”أطباء بلا حدود”، فإن كثيرًا من هذه الهجمات نُفذت عن عمد ودون أي إنذار مسبق. ومع ذلك، لم يُحاسب أي من المؤسسات الدولية الكيان الصهيوني على جرائمه.
من هذا المنطلق فان الأكاذيب لا تؤثر بحد ذاتها، بل تتحول إلى أدوات فعالة عندما تُضخ عبر وسائل الإعلام والمحللين والسياسيين وتتحول إلى قناعات راسخة في الرأي العام.