خطاط إيراني يتحدث للوفاق:

الكتيبة الحسينية… عزاء بالحبر والدمع

خاص الوفاق: سهرابي نصر: الراية تحوّلت إلى عنصر رمزي ظاهر في المجالس الحسينية، سواء في التعازي أو في تمثيليات التعزية، لتجسيد خط الولاية مقابل خط العداء.

موناسادات خواسته

 

في عتمة الحزن وضياء الدمع، ثمة فنٌّ لا يُكتب بالحبر فقط، بل يُكتب بالولاء. فنّ الكتيبة الحسينية ليس مجرد خطوط تُرسم، بل هو موكبٌ آخر يُساق عبر القماش. هناك، عند جدار مجلس العزاء، تقف كتيبة كُتبت يدوياً، ليست كجزء من الديكور… بل جزء من العزاء نفسه.

 

يتحدث الخطاط الإيراني الأستاذ «مهدي سهرابي نصر»، الذي أفنى أكثر من أربعين عاماً في خدمة هذا الفن، عن طفولةٍ تنفّست فن الخط في بيت العالِم والخطاط الكبير آية الله سيد سعيد نجومي، حيث كان مجلس العزاء في محرّم مدرسة موازية للروح. خطّ الثلث، الصلاة، البكاء، والأحاديث المروية عن الامام الحسين(ع)، كانت مجتمعة في صباحٍ واحد، تشكّل وعي طفلٍ، وتُخرج فناناً يرى في الحرف صوتاً أعلى من النحيب. هكذا دخل عالم الكتيبة، حيث كل حرف نداء، وكل سطر وثيقة وفاء، شارك في كثير من الفعاليات الدولية منها “فن الإنتظار” في العراق، و”الخط الأحمر” لكتابة الكتيبة الحسينية، ففي هذه الأيام التي تُرفع رايات عزاء الإمام الحسين(ع)، أجرينا حواراً معه، فيما يلي نصه:

 

الراية؛ عنصر رمزي ظاهر في المجالس الحسينية

 

 

بداية، عبّر الأستاذ «مهدي سهرابي نصر» عن رأيه حول فن كتابة الكتيبة، وتأثيره على الساحة العالمية بوصفه فناً إيرانياً، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم رب الحسين(ع).. بسم رب النون والقلم.. في الحقيقة، موضوع كتابة الكتيبة له جذور عميقة في إيران.

 

منذ القدم، كان الإيرانيون من الشعوب الرائدة في مجال رايات الهوية- من راية “كاوه آهنكر” إلى راية “أبي مسلم الخراساني”، فلكل جماعة أو تيار كان هناك راية تعرّف بها. في الأصل، كلمة “راية” تعني قطعة قماش أو جلد تُستخدم رمزاً لجماعة أو أمة أو مؤسسة، أو فكر، ومن هنا، حين نتحدث عن الفكر، لا يسعنا إلا أن نذكر رايات كربلاء التي كانت تُستخدم للتمييز بين معسكر الحق والباطل.

 

كانت راية الامام الحسين(ع) حاضرة دوماً، يقابلها راية يزيد لعنه الله. ولهذا، فإن الراية تحوّلت إلى عنصر رمزي ظاهر في المجالس الحسينية، سواء في التعازي أو في تمثيليات التعزية، لتجسيد خط الولاية مقابل خط العداء.

 

طريق التوحيد يمرّ من كربلاء

 

وفيما يتعلق بدور الفنانين في تكريس هذه الرمزية، يقول الفنان الإيراني: لطالما قدّم الفنانون أفضل ما لديهم في هذا الميدان. أحد أساتذتنا الكبار، آية الله نجومي (رحمه الله)، كان يقول لي: “تخيّل أن الإمام المهدي(عج) دخل محلّك وطلب منك عملاً، كيف ستنجزه؟”، وكنت أجيبه: “يا سيدنا، سأقدّم له روحي”، هذا المبدأ كان موجّهنا حين كنّا نكتب في حق الحسين وأهله(ع). كلّ عمل كنت أنجزه للإمام الحسين(ع)، كنت أرى فيه بوابة توحيد، لأن طريق التوحيد يمرّ من كربلاء. وهذا هو الفن المقاوم الصادق: أن تكتب وترسم من عمق الولاء.

 

أبحث عن رضى السيدة فاطمة الزهراء(س)

 

بعد ذلك تحدث الأستاذ سهرابي نصر عن بداية مسيرته في فن كتابة الكتيبة،  قائلاً: كنتُ تلميذاً لآية الله سيد سعيد نجومي ر(حمه الله)، ودرست على يديه خط الثلث. في بيت هذا العالم الجليل، وفي كل صباح من أيام محرم، كانت تُقام مجالس العزاء، تبدأ بخطبة قصيرة، ثم مراثٍ، ثم صلاة الظهر، هكذا نشأتُ منذ طفولتي في بيئةٍ ارتبط فيها الفن بالعقيدة، فوجدت نفسي تلقائياً أميل إلى الكتيبة، وبدأت من سن مبكر بتصميم وكتابة كتيبات لأهل البيت(ع)، واليوم، بعد 40 سنة، ما زلت أمارس هذا الفن، وأسأل الله أن يتقبّله، وأن يجمعني بأبي عبد الله الحسين(ع)، وترضى عنّي السيدة فاطمة الزهراء(س).

 

صفاء الخط من صفاء القلب

 

من المؤكد أن كل كتيبة تحمل مشاعر خاصة. فطلبنا من الأستاذ أن يصف لنا الإحساس الذي ينتابه أثناء الكتابة، فأجاب: في فن الخط لدينا ما يُعرف بـ”الشجن والصفاء”، وهما من أصول فن الخط الإسلامي. فصفاء الخط من صفاء القلب، حين يكتب الإنسان عن أهل البيت(ع)، أو أشعارهم، أو أحاديثهم، فإن كل ذرة من جسده تتفاعل مع الحبر. أنا لا أكتب فقط، أنا أعيش النص، حين أكتب عن الإمام الحسين(ع) أو السيدة زينب(س) أو سيدنا العباس(ع)، لا أملك نفسي… أحياناً أبكي، وأحياناً تتجمد يدي من الحزن. تخيّل أن تكتب “يا حسين(ع)” وأنت تتصور طفلةً تُقاد أسيرة، أو رأساً يُرفع على رمح أمام طفل صغير، الشعور لا يوصف. الحبر هنا لا يسيل… بل ينزف.

 

الكتابة والدمعة

أما عن دور الفن في توثيق مظلومية أهل البيت(ع) وإيصالها يقول: للفن أكبر دور. على مرّ التاريخ، تجد أن أفضل أعمال الفنانين والخطاطين والشعراء خرجت عندما كانوا يكتبون في حق اهل البيت(ع). من كتب “يا حسين(ع)”، كتب مجده، والفنان الذي لا يكتب للحسين(ع)، لمن يكتب؟ لمن يهدي حبره ووقته وعمره؟ الذي يكتب للحسين(ع) لا يسعى وراء مكافأة، بل ينتظر نظرة رضا من السيدة فاطمة الزهراء(س)، و الإمام المهدي(عج).

ويضيف: هناك بعض الأساتذة مثل: عرب طهراني، تديّن، وقافل‌ باشي، وغيرهم، رأيتهم مراراً يبكون وهم يخطّون اسم الحسين(ع). هذا ليس عملاً حرفياً فقط، بل هو عبادة. حين ترى فناناً يكتب لواء “يا قمر بني هاشم” ودموعه تبلّل الحبر، تأكّد أن هذه الكتيبة ستصل إلى مقام مولانا.

 

الكتيبة في المجالس الحسينية

 

أما عن دعم حضور الكتيبة اليدوية في المجالس الحسينية، يقول: إن شاء الله، في الدول التي نتشارك فيها إحياء ذكرى أبي عبد الله الحسين(ع)، سنتمكن من اتخاذ خطوات عملية من خلال الاهتمام بالرايات المكتوبة يدوياً. هذه الرايات، التي تُنفذ باليد وبكل حب وفن، ولله الحمد أصبحت أكثر انتشاراً. نحن نخطط لمساعدة الشباب العاملين في الهيئات، ليصلوا إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، بحيث يصنعون راياتهم بأنفسهم ويستخدمونها في مواكبهم. رايات تعبّر عن صدق نيتهم، وتُرسم على القماش بأرواحهم.

ويضيف: من خلال “دار الراية والكتيبة” في طهران، نسعى لتأسيس مركز تدريبي يخدم كل من يحمل شغف هذا الفن. نضع جهودنا في خدمة الكتيبة، ونفتح باب التعليم أمام الشباب الذين يمتلكون موهبة في الخط أو التصميم، حتى يتمكنوا من كتابة رايات هيئاتهم يدوياً، ويبتعدوا عن الرايات المطبوعة، ويتجهوا نحو الحرف اليدوي المقاوم.

 

ملتقى “الخط الأحمر”

 

أما عن النشاطات الدولية في مجال كتابة الكتيبة يقول سهرابي نصر: نظمنا أول وأكبر لقاء خاص بفن الكتيبة الحسينية، تحت عنوان “ملتقى الخط الأحمر”. ضمّ اللقاء أربعة من كبار الخطاطين هم: الأستاذ عرب طهراني، الأستاذ قافله ‌باشي، الأستاذ تدیّن، وأنا،  اجتمعنا في طهران مع أكثر من 80 فناناً وفنانة من الطلبة والخريجين. كان اللقاء في مكان رمزي، وهو “متحف وكر التجسس الأمريكي”، وهناك خدمنا أهل البيت(ع) باليد والقلب.

 

أنجزت قرابة 50 كتيبة راقية، خصصت للمراسم والمجالس. لكن الأهم كان الجانب التعليمي: هؤلاء الشباب سيتحولون إلى مدرّبين في مدنهم وهيئاتهم. ونعد بمواصلة هذه الورش، وبتسليم هذا الفن إلى أجيال أصغر، حتى نظلّ نُسطر رايات الامام الحسين(ع) حتى ظهور الإمام المهدي المنتظر(عج).

 

ملتقى “فن الإنتظار”

 

وفيما يتعلق بالنشاطات الدولية خارج إيران يقول سهرابي نصر: في بغداد، كان لنا لقاء مهم يجمع فنّانين من العراق وإيران تحت عنوان “فن الإنتظار”. بدأ التعاون من خيمة الأربعين في طريق المشاية، من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة. فنانون من دول متعددة قدّموا أعمالاً بلغاتهم، كلهم تحت راية الإمام الحسين(ع)، ثم نظّمنا أول ملتقى دولي في بغداد بروح عاشورائية، وركّزنا فيه على القضية الفلسطينية وغزة، حيث شمر الزمان اليوم هو الكيان الصهيوني وسياسته الوحشية.

 

أُنتجت أعمال فنية تحمل رسالتين: حبّ أهل البيت(ع)، ورفض الظلم المعاصر. هي خطوة أولى، وسنستمر بإذن الله، بدعم إخواننا في العراق، وبحضور فنانين من العالم ممن يحملون صوت المقاومة والعدالة.

 

سرّ خلود نهضة الإمام الحسين(ع)

 

أما عن سر خلود نهضة الإمام الحسين(ع) يقول: بصراحة، أشعر أنني أصغر بكثير من أن أتكلم عن شخصية عظيمة كالإمام الحسين(ع)، أو أن أزعم أنني قادر على فهم جوهر هذه المسيرة. ومع ذلك، أكتفي بالإشارة إلى ما قاله رسول الله(ص): “إن لقتل الحسين(ع) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً.”

 

ما نراه ليس فقط حرارة أو حزناً، بل أثر خالد لا ينطفئ. إن أي حدثٍ اختلطت فيه المظلومية بالحق لا يمكن أن يُدفن تحت التراب، خصوصاً إذا كان نورَه هو الحسين(ع). هذا ليس مجرد استشهاد شخصية عظيمة، بل انبعاث فكرٍ كاملٍ في وجه الظلم، ودعوة إلى الدفاع عن المظلومين ومواجهة الطغاة.

 

الإمام الحسين(ع) لم يستشهد فقط، بل سُلبت معه إنسانية التاريخ. وما نراه اليوم في غزة مثالٌ صارخ: أكثر من عشرين ألف طفل يُقتلون والعالم صامت. نحن شعبٌ لا يتحمّل مشهد عصفور يموت على الرصيف، فكيف بطفل يُذبح؟!

 

لو ارتفع صوت المسلمين في هذا الظرف، فلا يُعدّ تدخلاً سياسياً، بل هو نداء مظلومية. نحن أبناء مدرسة قائلها علي بن أبي طالب(ع)، الذي لما بلغه أن امرأة معاهدة انتزع خلخالها في غارة على بلدها، لم يصبر على هذا الظلم ونقض القانون، وقال: “فلو أن إمرءاً مات من هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان عندي به جديرا”.

 

نحن أبناء هذا الخط، ولا بد أن يكون صوتنا أعلى من سائر الأصوات حين تُهان المظلومية. والفنان بدوره يحمل رسالة؛ عليه أن يُجسّد الوجع بصوت الصورة، بالحبر، بالراية.

 

ولا يمكن لأحد أن يُقارن جريمة العصر، مهما كانت، بكربلاء؛ لكن كربلاء تفتح الوعي على كل مظلوم وتوجه البوصلة ضد كل ظالم. الظلم مرفوض، في أي لباسٍ أتى، والمظلوم هو وجه الله في الأرض.

 

وفي ختام كلامه يقول: أود أن أقول جملة واحدة فقط: لا فرق بين عربي وفارسي وهندي وباكستاني وصيني عندما يتعلق الأمر بالحسين(ع)، رأيت من يُقيم العزاء للحسين(ع) في الهند، في الصين، في إفريقيا… لا فرق بين أحد، فالمعيار هو مدى القرب من روح أبي عبدالله الحسين(ع).

 

كل من اقترب منه، كان له الشرف الأكبر نحن لا نبحث عن تمييز قومي أو لغوي، نحن نبحث عن أخوة تجمع عشّاق الامام الحسين(ع) تحت لواء واحد وبظهور الإمام المهدي(عج)، إن شاء الله، سيتحقق هذا الاتحاد العظيم، وسينتصر العدل.

 

هذا وفيما يلي بعض أعمال الأستاذ مهدي سهرابي نصر.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص