أزمة الكيان الإسرائيلي

“إسرائيل” بين سندان الحكومة ومطرقة المعارضة

بالتزامن مع استعباد الكيان لحاجات رجل واحد "نتنياهو" كما يقول الإسرائيليون ومسؤولوهم، شهدت فلسطين السليبة إغلاقا للشوارع، ومظاهرات احتجاجية واسعة بمشاركة أطباء وطلاب وإضرابات، ما يعني فشل مساعي الوساطة والتسوية بشكل ذريع.

2023-02-21

بدأ البرلمان (الكنيست) الإسرائيلي، يوم أمس، المصادقة في القراءة الأولى على الجزء الأول من خطة “الإصلاحات القضائية” التي توصف بالخبيثة، والتي تعتبرها المعارضة انقلاباً على “ديمقراطية” الاحتلال حسب تعبيرها، في ظل التخوف الكبير من إقدام حكومة نتنياهو المتطرفة على تعديل النظام القضائيّ في وقت يواجه الأخير تهماً بالفساد في سلسلة من القضايا، وخاصة أن الحقيبة الوزارية المتعلقة بالعدل أُسندت إلى ياريف ليفين المقرّب من رئيس الوزراء، حيث بات الكيان بالفعل يسير في طريق مختصر واحد نحو “الصدام الحاد” وهذا ما تنبأ به كثيرون منذ اليوم الأول لنتائج انتخابات الأول من تشرين الثاني/نوفمبر ووصول الأحزاب الدينية المتشددة واليمينية المتطرفة للحكم، الشيء الذي أدّى لوصول بنيامين نتانياهو وللمرة السادسة للحكومة الأكثر فاشيّة منذ بداية الاحتلال العسكري الصهيوني لفلسطين والأراضي العربية.

أزمة داخليّة عميقة

بالتزامن مع استعباد الكيان لحاجات رجل واحد “نتنياهو” كما يقول الإسرائيليون ومسؤولوهم، شهدت فلسطين السليبة إغلاقا للشوارع، ومظاهرات احتجاجية واسعة بمشاركة أطباء وطلاب وإضرابات، ما يعني فشل مساعي الوساطة والتسوية بشكل ذريع ، وتعميق الأزمة الداخلية وحالة الانقسام بين الإسرائيليين، مع تزايد الشروخات بشكل يهدد “المجتمع الإسرائيليّ”، رغم الضغوط الخارجية والداخلية المستمرة على حكومة الاحتلال العنصرية لوقف أو إبطاء عملية التشريعات الإشكالية للغاية، وذلك بالنظر إلى أنّ كيان الاحتلال أصبح مستعبداً بشكل كامل لاحتياجات الجماعات الإسرائيليّة المتطرفة، وبالتالي سيدفع الإسرائيليون أثماناً باهظة، وخاصة أنّ مؤسسات الكيان باتت مسخرة بالمطلق لخدمة الصهاينة المتطرفين.

وتشير المعلومات إلى أنّ القسم الأول من هذه الخطة، والتي يقودها بالتحديد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير القضاء المقّرب منه ياريف لافين، تضم مشروع قانون لتغيير هيكلة اللجنة الخاصة بتعيين قضاة المحكمة العليا للكيان، حيث تصبح حكومة العدو مسيطرة تماماً عليها، من خلال ضمان 5 مندوبين لها من بين 9 أعضاء، إضافة إلى مشروع قانون يحظر على المحكمة التدّخل وإلغاء القوانين، بما يساهم بعودة رئيس حزب “شاس” (حزب المتّدينين الأورثوذوكس الشرقيين) الوزير المقال آرييه درعي المشهور بفاشيته الشديدة، وهو حليف نتنياهو المركزي، لصفوف الحكومة، بعدما كانت المحكمة العليا قد قرّرت، في الشهر الفائت، ضرورة إقالة درعي لكونه قد أدين بتهم فساد.

وفي الوقت الذي تسيطر فيه الخلافات الإسرائيلية الداخلية على المشهد، بالأخص في الأيام الأخيرة حول استقلالية الجهاز القضائي، وحماية السلطات الثلاث، والدفاع عن مكانة المحكمة العليا، وحماية “منظومة الديمقراطية”، لكن الأصل في الانشقاقات ضمن بنية الكيان السياسيّة والاجتماعية أنها تعاني في الجوهر من مشكلات أعمق وأكبر بكثير من هذا السجال حول الجهاز القضائي، حيث تعكس هذه الخلافات تغييرات عميقة في صفوف الإسرائيليين واختلافات مستترة في السياسة والمجتمع ومجمل التوجهات، بين شرقيين وبين غربيين، بين متدينين وبين علمانيين، بين مؤيدين ومعارضين لبعض الملفات كالضم وهكذا.

من ناحية أخرى، يرى عدد من المتابعين الإسرائيليين أن ما يجري من قبل الائتلاف الحاكم يسعى بالمطلق لتقزيم المحكمة العليا، وهو تعبير عن رغبة المستوطنين بالانتقام من المحكمة العليا التي رفضت التماساتهم لوقف فك الارتباط عن غزة وتفكيك المستوطنات داخل القطاع عام 2005، فيما تتطلع أحزاب المتدينين الأورثوذوكس (الحريديم) بالمقابل، لتقزيم المحكمة العليا كي تبقى الأحزاب المتطرفة حرّة في تمرير برامجها الاجتماعية دون إزعاج أو تشويش أو تدّخل من قبل السلطة القضائية في قضايا تتعلق بالفصل بين الدين والدولة أو قضايا المرأة أو قضية امتناعهم عن العمل والتفرّغ لتعّلم التوراة وغيره، ناهيك عن اتهامات أوساط المعارضة الحكومة بأنها بواسطة “خطة الانقلاب” التشريعية تحول الكيان لـ “دولة شريعة ودولة ظلامية” تداس فيها حريات الفرد وحقوق المواطن والأقليات على أنواعها.

وفي ظل الحال الذي وصل إليه الكيان الغاصب من الترنح العميق في كل السلطات والمجتمع الصهيوني في آن واحد، بدءاً من الكنيست أو السلطة التشريعية، وصولاً إلى الحكومة أو السلطة التنفيذية، وليس ختاماً عند السلطة القضائية ممثلة بالمحكمة العليا للحكومة الصهيونيّة، يضيع التوازن بين مختلف السلطات في حكومة العدو تماشياً مع أساليب “تكسير العضم” داخل النظام السياسيّ الإسرائيليّ وهذا ما يؤكّده مشهد الصراع بين كل السلطات، بما يمتد بلا شك على كل النواحي الاجتماعية، باعتبار أنّ الصراع بين الصهاينة عميق للغاية بين اليهود الغربيين ممن بنوا الكيان ويريدونه أن يبقى علمانيّاً وليبراليّاً ويشعرون أنه يسرق منهم الآن، وبين يهود شرقيين لديهم شعور قوّي بالانتقام للتمييز ضدهم والتعالي عليهم، ما يعني أن الشفاء الكامل من الانقسام الإسرائيلي بات “كحلم إبليس بالجنة”، وحتى إن عولج بالمطلق –وهذا مستحيل- ستبقى ندوبه تنزف بصمت لتملأ كأس نهاية “إسرائيل”.

“إسرائيل” تنزلق نحو الهاوية

يجمع الكثير من المثقفين الصهاينة على أنّ “إسرائيل تنزلق نحو حافة الهاوية”، وخاصة عقب ما يمكن تسميته “الانقلاب القضائي” الذي سيدفع باعتقادهم لضرر ذاتي فادح يهدد وجود الكيان بشكل حقيقي، ويدفعه نحو انهيار وتفكك داخليّ عميق، والدليل ما أشار إليه ايهود باراك رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، حيث قال: “إن الخطر الحقيقي هو في الداخل الإسرائيلي، معربا عن قلقه من تدهور “إسرائيل” قبل نهاية الثمانينيات من عمرها” وذلك في مقال نشره في 4 مايو 2022 في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، كما نوّه رئيس وزراء الكيان السابق نفتالي بينيت، في إشارة إلى هذه اللعنة، في 3 مايو من العام الفائت إلى أنّ “السبب الرئيس لتفكك حكومات “إسرائيل” السابقة هو الكراهية الداخلية التي نشأت بين الإسرائيليين”، وقد حذّر في الوقت نفسه من أن “إسرائيل ستنهار من الداخل لأن الكراهية بين الأفراد تؤدي إلى تفكك الأمم”.

ومن الواضح أنّ أهمّ السياسيين الإسرائيليين متفقين على أنّ الخطر الحقيقي يكمن في “المجتمع الإسرائيلي”، ومع انطلاق طاحونة التشريعات الصهيونية، وتصاعد الاحتجاجات وارتفاع حدة الانقسام الداخلي تكون محاولة رئيس الكيان يتسحاق هرتسوغ لإحراز تسوية وحل وسط، ومنع تعمق الأزمة والارتطام بين القطارين المتسارعين قد فشلت بشكل تام، بعدما عرض في “خطاب للأمة” مؤخراً خطته للتسوية، ودعا فيها لوقف فوري للتشريع وللاحتجاجات، من جانبهم أعلن رؤساء الائتلاف الحاكم غداة مبادرة هرتسوغ أنهم مستعدون للتداول، ولكن دون شروط مسبقة، ودون وقف عملية التشريع في القراءات التمهيديّة، وهذا ما اعتبرته المعارضة مناورة والتفافاً وخدعة، داعية لوقف فوري لـ “التشريعات الانقلابية”، ولمدة شهرين، لفتح فرصة حقيقية للحوار، وفي ظل تلك الأحداث استمر تبادل التهم بين المعسكرين المتصارعين، بل شهد تصعيداً جديداً بتوجيه رئيس حزب “الصهيونية الدينية” وزير المالية باتسلئيل سموتريتش تهم “الدفع نحو حرب أهلية والتحريض على الاغتيال” لـ رئيس المعارضة يائير لبيد.

وفي هذا الإطار، جدّد وزير الأمن الصهيونيّ السابق موشيه ياعلون هجومه على حكومة نتنياهو، واعتبر أن الإثنين (يوم المصادقة على الانقلاب القضائيّ) هو “يوم أسود” في تاريخ الكيان، مؤكداً أن المعركة الحالية تدور على جوهر ومستقبل ما أسماها “الدولة اليهودية”، وليس صراعاً بين معسكري اليمين واليسار، معرباً عن خيبة أمله من أداء رئيس الكيان، وأشار لإعلان مدفوع وقّعه عدد كبير من المسؤولين الإسرائيليين السابقين، من بينهم رؤساء سابقون للمخابرات العامة (الشاباك) يدعون فيه هرتسوغ لمنع المصادقة على القوانين الجديدة، وبالتالي منع إخراجها لحيز التنفيذ، إذ تقضي تقاليد الحكم العسكري للكيان بأن يصادق رئيس الاحتلال على كل قانون جديد يشرع في البرلمان كي يصبح ساري المفعول رسمياً.

خلاصة القول، تؤكّد الوقائع في كيان الاحتلال أنّ الهوة بين المعسكرين المتصارعين ومن يؤيدهما من المهاجرين الصهاينة تتسع بشكل أخطر مما يتصور البعض، باعتبار أنّهما من ناحية المعتقدات والتوجهات السياسيّة خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيا أبداً، لكنّهما في الخلاف قطاران يتجهان على خط الإبادة نفسه لكن نقطة الانطلاق من اليمين واليسار وبالتالي فإنّ الصدام قادم لا محالة، وسط استمرار التحذيرات في كيان العدو من أن هذا الانقسام ينطوي على تهديدات استراتيجية ووجودية على العدو لأن حالة الانقسام الداخلي تتأزم بصورة شديدة للغاية، وتنذر بزلزلة وضع الصهاينة والحلم الصهيونيّ.