في عالم يزداد ترابطاً وتداخلاً، لم تعد العلاقات بين الدول تقتصر على الأبعاد السياسية والإقتصادية فحسب، بل أصبحت الثقافة أداة محورية في بناء الجسور بين الشعوب وتشكيل صورة الدول في الوعي الجمعي العالمي.
الدبلوماسية الثقافية تمثل هذا الإمتداد الناعم والمؤثر الذي يعمل على تعزيز التفاهم المتبادل، وترويج القيم الوطنية، وصياغة العلاقات الدولية بلغة الفن والفكر والهوية.
من خلال تبادل الفنون، التعليم، اللغة، والعادات، تسعى الدول إلى إيصال رسائلها بشكل غير مباشر وفعّال. فالدبلوماسية الثقافية لم تعد رفاهية نُخب، بل أصبحت ضرورة استراتيجية لبناء النفوذ وكسب القلوب وتحصين المجتمعات من الصور النمطية والحروب الإدراكية.
ومن هذا المنطلق، يأتي الحديث عن أهمية هذه الأداة في رسم معالم حضور الدول على الساحة العالمية، وبخاصة في ظل التحديات المتسارعة التي يفرضها العصر الرقمي، وتزايد الحاجة إلى الحوار والتفاهم بين الحضارات.
وتبرز أهمية هذا الشكل من الدبلوماسية في أوقات الأزمات، حيث يمكن أن تعمل الثقافة كنافذة للإنفتاح، وكوسيلة لتمهيد الحوار حتى في ظل النزاعات السياسية الحادة. كما أن توظيف الثقافة بذكاء يمكن أن يعزز المصالح القومية، ويرسّخ حضور الدولة في ذاكرة الشعوب بطريقة أكثر ديمومة وعمقاً.
إيران والدبلوماسية الثقافية
تُعد إيران واحدة من الدول التي تبنّت الدبلوماسية الثقافية كركيزة استراتيجية في سياستها الخارجية، مستفيدة من عمقها الحضاري، وتنوّعها الثقافي، ورصيدها الغني من الأدب والفنون والفكر الإسلامي.
اليوم العاشر من شهر «تير» الإيراني الموافق 1 يوليو، يصادف الذكرى الثلاثين لتأسيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية، وقد تم تخصيص هذا اليوم في التقويم ليُعرف بـ «يوم الدبلوماسية الثقافية والتفاعل مع العالم».
تُصادف هذا العام الذكرى الثلاثين لتأسيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي مؤسسة تُعد من أبرز الركائز في نشر الثقافة الإيرانية وتعزيز التفاعل الحضاري بين إيران والعالم. هذه المناسبة لا تمثل فقط مرور ثلاثة عقود من العمل الثقافي، بل هي أيضاً فرصة لتقييم الدور الحيوي الذي لعبته الدبلوماسية الثقافية في بناء الجسور بين الشعوب والحضارات.
الإطار المؤسسي والتاريخي
منذ تأسيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية عام 1995، وضعت إيران مساراً منظماً لتعزيز حضورها الثقافي في الساحة العالمية. تهدف المنظمة إلى بناء تواصل حضاري، وتعزيز الفهم المتبادل، ونقل الصورة الثقافية الحقيقية عن إيران بعيداً عن التشويهات السياسية والإعلامية.
وقد أنشأت إيران مراكز ثقافية في أكثر من 60 دولة، تعمل كمراکز لنشر اللغة الفارسية وتنظيم الفعاليات الأدبية والفنية، وإقامة برامج تعليمية وثقافية تُعزّز الحوار بين الحضارات.
الدبلوماسيون الثقافيون
يرتبط نجاح السياسة الخارجية عموماً، وفي مجال تحسين صورة الدولة على وجه الخصوص، باستخدام فعال للأدوات الثقافية ضمن إطار «الدبلوماسية الثقافية». ولهذا، تمنح الدول اهتماماً خاصاً لإستخدام الثقافة في علاقاتها الخارجية، حيث تُعد الدبلوماسية الثقافية جزءاً لا يتجزأ من الدبلوماسية العامة.
أدوات الدبلوماسية الثقافية الإيرانية
يحدث «التبادل الثقافي» عبر وسائل متعددة، بدءاً من الحوار بين الدول وصولاً إلى دراسة عادات وتقاليد الشعوب الأخرى. هذا التبادل يساعد الشعوب في التعريف بثقافاتها، ووضع برامج لمعالجة التحديات وتعزيز نقاط القوة في ثقافاتها المحلية، ومن ضمن أدوات الدبلوماسية الثقافية يمكن ذِكر:
– التعليم: دعم تدريس اللغة الفارسية والآداب الإيرانية في جامعات خارجية، وعقد دورات لتعليم اللغة والفكر الإسلامي.
– الفن والموسيقى: إقامة معارض للفنون التشكيلية، مهرجانات للموسيقى التقليدية، وعروض سينمائية إيرانية في الخارج.
– المنتديات الفكرية: تنظيم مؤتمرات حوار الأديان والتقريب بين المذاهب، والمشاركة في الحوارات الأكاديمية العالمية.
– الأنشطة القرآنية: مبادرات مثل «محافل قرآنية» في الدول الإسلامية، وتعيين سفراء قرآنيين بارزين كرموز للدعوة والسلام.
الدبلوماسية القرآنية كإمتداد روحي
ابتكرت إيران ما يمكن تسميته بـ «الدبلوماسية القرآنية»، حيث تسعى إلى تفعيل الرسالة الروحية للقرآن كمنصة للتقريب بين الشعوب والثقافات. ومن الأمثلة على ذلك تنظيم مسابقات ومحافل قرآنية في دول مثل تنزانيا وإندونيسيا وباكستان، بالتنسيق مع المستشارين الثقافيين الإيرانيين.
الربط بين الجغرافيا والثقافة
مع عضويتها في منظمات إقليمية كـ «منظمة شنغهاي»، تعتمد إيران على ثقافتها كجسر لتعزيز الإندماج الإقليمي، عبر ربط آسيا الوسطى بجنوب آسيا والشرق الأوسط. وتُعدّ صناعات مثل السياحة الدينية، الأدب، والأزياء التقليدية أدوات فعالة لإظهار الوجه الحضاري المتنوّع لإيران.
استراتيجية جديدة وآفاق مستقبلية
صرّح الدكتور عبد الرضا راشد، معاون تطوير العلاقات الثقافية الدولية لمنظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية، بأن الهيئة التنفيذية أقرّت مؤخراً وثيقة استراتيجية خمسية جديدة تهدف إلى توسيع وتعميق النفوذ المعنوي والثقافي الإيراني على المستوى الدولي. وقد حددت الوثيقة ثلاثة أركان رئيسية هي: تثبيت الأصول والمجالات الثقافية والدينية والثورية، تعميق الخطاب الإيراني الإسلامي الثوري، زيادة التأثير في النُظم والقرارات الثقافية والاجتماعية في المنطقة والعالم.
مواجهة التحديات الإعلامية
وأشار راشد إلى التحديات المعرفية والإعلامية المعاصرة، مؤكداً أن وسائل إعلام معادية تنشر صورة مشوهة عن إيران، ما يستدعي الرد عبر دبلوماسية ثقافية فعّالة تقوم على تقديم صورة حقيقية نابعة من الواقع الإيراني المتعدد والغني.
وقد حددت المنظمة ستة مجالات استراتيجية لصناعة هذه الصورة هي: الفن والإبداع، الإعلام التقليدي والرقمي، السياحة الثقافية والدينية، الرياضة كبعد تواصلي شبابي، العلم والتكنولوجيا، الصناعات الثقافية والإبداعية والتصدير الثقافي، الاجتماعات الثقافية كأداة تقييم واستشراف.
وأخيراً يمكننا القول أن إيران ليست مجرد دولة ذات إرث حضاري عريق، بل فاعل ثقافي يسعى لإعادة تعريف حضوره في العالم من خلال القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية، والانفتاح على العالم يبدأ من منصّات الفن، التعليم، والحوار.