الحق في الحياة عند الإمام الحسين (ع)

الإمام الحسين وأصحابه يوم عاشوراء يلمس منهم الإيمان المطلق ان الموت ليس إلا البداية للخلود في دار الدنيا والآخرة، وان المشروع النهضوي الذي يقدمون عليه يريدون منه إحياء الأمة واستنقاذها من الخنوع والخضوع والعدوان، فكان هذا المشروع بذرة أنبتت سبع سنابل وفي كل منها مئات المصلحين والأخيار والثائرين...

الإمام الحسين وأصحابه يوم عاشوراء يلمس منهم الإيمان المطلق ان الموت ليس إلا البداية للخلود في دار الدنيا والآخرة، وان المشروع النهضوي الذي يقدمون عليه يريدون منه إحياء الأمة واستنقاذها من الخنوع والخضوع والعدوان، فكان هذا المشروع بذرة أنبتت سبع سنابل وفي كل منها مئات المصلحين والأخيار والثائرين…

 

المتتبع لخطاب الإمام الحسين (عليه السلام) قبل وأثناء واقعة الطف الأليمة العام 61 هجرية يلحظ وبوضوح انه اقتفى أثر الحق في الحياة ليؤسس له كأحد أهم الحقوق التي من شأنها ان تؤكد الكرامة الإنسانية والكرامة تعد فلسفة تشريعية انطلقت منها ولأجلها العديد من القواعد التشريعية الإسلامية، وإن الحياة الحقيقية ليست مجرد وجود مادي للإنسان، بل هي حياة تبنى على أسس وقيم أولها الحق والعدل وأخرها الاحترام الواجب، وان الدفاع عما تقدم هو الحياة الحقيقية التي قوامها الحقيقة الأزلية بخلافة الإنسان للأرض وما عليها وتكريمه على سائر المخلوقات ليتمكن من العيش بسعادة مع الآخرين.

 

ولذا يذكرنا الإمام الحسين(ع) بالقدر المحتوم فيقول (خُطَّ الْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلَادَةِ عَلَى جِيدِ الْفَتَاةِ وَمَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلَافِي‏ اشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ وَخُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لَاقِيهِ كَأَنِّي بِأَوْصَالِي يَتَقَطَّعُهَا عَسَلَانُ الْفَلَوَاتِ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلَاءَ…. ألا مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلًا مُهْجَتَهُ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اللَّهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شَاءَ اللَّهُ).

 

بهذه الكلمات يرسم الامام الحسين(ع) خط الحياة ومسار الموت وحتميته ولكل مجتهد نصيب فمن اجتهد في مرضاة الله جعل الحق في الحياة من أقدس المقدسات ومن زاغت به القدم إلى الباطل والطغيان كان الاعتداء على هذه القيمة أهون عليه من شربة ماء، إذ يعطي الإمام الحسين (عليه السلام) بكلامه أنفاً درسا بليغاً مضمونه ان الانتصار العسكري قد يتأخر ولكن التخطيط المتقن من شأنه ان يجعل صاحبه يكسب الحرب ولو خسر معركة من معاركها، ولذا انتصر المبدأ السامي بتقديس الحق والعدل على الظلم والجور والبغي الذي مثله معسكر الأمويين في كربلاء حيث يقول عليه السلام (إِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً)، وكيف لا يكون كذلك وهو ابن الرسول الأعظم الذي يقول بشأن تمسكه بالحق والعدل والإيمان حين جرت مساومته من كفار قريش فقال (واللَّهِ لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرُ فِي شِمَالِي مَا تَرَكْتُ هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى أُنْفِذَهُ أَوْ أُقْتَلَ دُونَهُ)، لذا ورد في الأثر ان الإسلام محمدي الوجود والتأسيس حسيني البقاء والاستمرار ويعد ما تقدم مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (حُسَيْنٌ مِنِّي وَ أَنَا مِنْ حُسَيْن).

 

والمتأمل بكلام الإمام الحسين(ع) وأصحابه يوم عاشوراء يلمس منهم الإيمان المطلق ان الموت ليس إلا البداية للخلود في دار الدنيا والآخرة، وان المشروع النهضوي الذي يقدمون عليه يريدون منه إحياء الأمة واستنقاذها من الخنوع والخضوع والعدوان، فكان هذا المشروع بذرة أنبتت سبع سنابل وفي كل منها مئات المصلحين والأخيار والثائرين ممن أناروا الدروب بتضحياتهم الجسام في سبيل الحق والعدل يقول الله تعالى في محكم كتابه المجيد ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ))، وكان موقف الحسين عليه السلام ترجمة لقول الله تبارك وتعالى بوصفه الأولياء الذين ثبتوا في ساحات الشرف ((يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعي‏ إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلي‏ في‏ عِبادي وادْخُلي‏ جَنَّتي‏)).

 

أراد أبو عبد الله ان يربي المجتمع على الفضيلة والدفاع عنها بكل الوسائل المشروعة ولو وصل الأمر إلى المنازلة الحربية كيف لا والقرآن لا يتحدث عن الموت المحتم للإنسان فحسب بل يمكن ان يكون الموت للأمة أو المجتمع فكيف للأمة ان تعيش بالذل أو الهوان والله أراد لها ان تعيش بكرامة يقول الله تعالى ((ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُون)) فحياة الفرد والأمة حقيقة قرآنية وإسلامية، بعبارة أشد وضوحاً لا انفكاك بين الفرد والمجتمع وحياة الفرد والمجتمع مرتبطتان وبما ان الفرد هو أصغر لبنة في تكوين المجتمع فلابد ان تكون هذه اللبنة مبنية بشكل عقائدي واجتماعي واقتصادي سليم ليعيش حياته الفردية والاجتماعية بشكل سليم وإلا ان أصابه الانحراف وسيتبعد عن عالم القيم الحقة إلى عالم الطغيان أو القبول بالطغيان والعدوان على الآخرين.

 

وتجلى ما تقدم في كربلاء فالبعض في معسكر الأمويين كان مغلوباً على أمره في ظاهر الحال لذا أراد الحسين عليه السلام ان يرفع عنهم هذه الظلامة الظاهرية ويضعهم أمام ضمائرهم ان كانت حية ليتذكروا ان العدوان حرام ولو على غير المسلم، فكيف بك والمعتدى عليه جزء لا يتجزأ من جسد وروح وفكر النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم وان عدوانهم على حياته سيفتح الباب أمامهم للعدوان على الآخرين إذ يقول لهم ((يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته، أما إنكم لا تقتلون رجلا بعدي فتهابون قتله بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي، وأيم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة)).

 

فالموت في سبيل الحق غاية عند الحسين أدركها فكانت سبب خلوده فهو بحق رجل المبادئ الإنسانية الحقة، ومن القيم التي أرساها الحسين عليه السلام في عاشوراء ان الأصل هو الحق في الحياة، بيد ان تزاحم الأولويات من شأنه ان يعيد ترتيب سلم الأولويات وان شيوع الظلم والانحراف من شأنه ان يبرر طلب الموت في سبيل إحداث الإصلاح، وذلك ليس بجديد إذ افتخر الشعراء العرب سابقا قبل الإسلام وكذلك الفرسان والكرام بطلب الموت في كونه يمثل أيقونة الشجاعة والبطولة والإقدام، يقول شاعر قبل الإسلام ((فإنْ كُنتَ لا تسطيعُ دَفْعَ مَنِيّتي فَدَعْني أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يدي))، وبعد الإسلام اكتسب المعنى المتقدم طابعاً عقائدياً حين يكون في سبيل العقيدة يقول الله تعالى في ذلك ((وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ)) وان الشهادة لا تمثل قيمة دنيوية كالشجاعة والإقدام فحسب بل إنها درجة سامية لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.

 

ولقيم الحياة في منهج الحسين عليه السلام الحضور الأوفى، حيث بادر الإمام الحسين في يوم العاشر زما قبله بالعديد من التصرفات التي تدل وبما لا يدع مجالاً للشك انه عليه السلام يقدس الحياة ويكره العدوان عليها ومنها:

 

أولاً: رفض البدء بالقتال والعدوان: حيث عرض عليه بعض من كان معه الإجهاز على جيش الكوفة حين كان يتجمع بالقرب من معسكر الإمام الحسين قبل ان يكتمل عديدهم وعدتهم فقال قولته المشهورة (ما كنت لأبدأهم بقتال قط).

 

ثانياً: حسن المعاملة: حيث يحدثنا المؤرخون ان طلائع جيش الكوفة التي جاءت لحرب الإمام الحسين كانت بقيادة الحر بن يزيد الرياحي وحين التقى الفريقان وجد الإمام الحسين أنهم ودوابهم عطشى فأمر أصحابه بسقيهم الماء وترشيف الخيول، ونستفيد من النص ان الإمام كان يحامي حتى عن حقوق الحيوان وليس الإنسان فحسب وما سلوكه المتقدم إلا دليل تفرد هذه الشخصية بالنهج الإنساني المتأصل في نفسه الكبيرة.

 

ثالثاً: الأولوية للسلم والسلام عند الحسين (عليه السلام): إذ بادر عليه السلام إلى فتح باب التفاوض مع الأعداء والاستماع لهم، فقد بعث لعمر بن سعد قبل يوم من الواقعة وتحدث معه ليثنيه عما يريد، وحين نادى الشمر وهو من قادة الجيش الأموي العباس عليه السلام للحديث معه فأعرض عنه، بيد ان الإمام الحسين عليه السلام أمره بالذهاب والاستماع لقوله لقطع الطريق على أي مقولة من شأنها ان تضع معسكر الحق في خانة الشك أو الريبة.

 

رابعاً: النصح والإرشاد للقوم: حيث عمد الإمام الحسين إلى مخاطبة القوم ثلاث مرات قبل بدء المعركة كما سمح لأنصاره وأهل بيته بمخاطبة الأعداء وتذكيرهم بجريرة الأمر الذي يدبرون وما سيؤول إليه مصيرهم في الدنيا والآخرة، ولقد بدء كلامه عليه السلام بالقول ((أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي‏ وَ لَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَعِظَكُمْ بِمَا يَحِقُّ لَكُمْ عَلَيَّ وَحَتَّى أُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ أَعْطَيْتُمُونِي النَّصَفَ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَإِنْ لَمْ تُعْطُونِي النَّصَفَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَأَجْمِعُوا رَأْيَكُمْ‏ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ،‏ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)).

 

خامساً: المساواة: فالإمام الحسين لا يميز بين أهل بيته وأنصاره ولأي سبب كان إذ كان فيهم النصراني والعبد الأسود والسيد الشريف وشيخ العشيرة أو سيد القوم ومن عامة الناس ولم يكن في سلوكه إزاءهم أي استثناء وما حصل مع الصحابي الجليل حبيب بن مظاهر الأسدي وجون عليهما السلام إلا مصداق لما تقدم.

 

سادساً: الصفح: اعتاد الإمام الحسين ان يصفح عمن أساء أو اعتدى ان تاب وعاد إلى درب الهداية والرشاد حيث لم ينكل بالحر الرياحي حين عاد إلى الحسين تائباً وقد أطرق برأسه حياءً فلم يوبخه أو يرفض توبته بل كان له شرف السبق بالشهادة بين يدي الإمام الحسين ثم أبنه الإمام بالقول سمتك أمك الحر وأنت حر في الدنيا والآخرة.

 

المصدر: شبكة النبأ