الخبيرة اللبنانية في علم الاجتماع السياسي الدكتورة ليلى صالح للوفاق:

انتفاضة الوعي العالمي.. حين تُصبح العدالة مطلبًا شعبيًا عابرًا للحدود

خاص الوفاق: التحول في المزاج المجتمعي العالمي قد يفتح الباب أمام إعادة تشكيل الاصطفافات السياسية داخل الدول الغربية عبر نمو تيارات تريد الضغط على العدو الصهيوني ككيان مؤقت بعد "امتيازات الضحية" في الوعي العام العالمي.

عبير شمص

 

 

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا في الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية، حيث باتت المجتمعات الغربية أكثر وعيًا بالانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، خاصةً في ظل العدوان المتواصل على غزة. هذا التحول لم يقتصر على الأفراد، بل امتدّ ليشمل مؤسسات إعلامية ومنظمات حقوقية، مما أدى إلى تصدع في الخطاب السياسي التقليدي الذي كان يُبرر دعم الاحتلال الصهيوني. حول هذا الموضوع حاورت صحيفة الوفاق الخبيرة في علم الاجتماع السياسي الدكتورة ليلى صالح، فيما يلي نصّه:

 

 

 

 

تحوّلات في المزاج المجتمعي العالمي

 

 

تشير الدكتورة صالح أنه في خضمّ المجازر المستمرة في غزة، يخرج مئات الآلاف إلى الشوارع في نيويورك، ولندن، وباريس، ومدن أخرى كانت تمثل رموزًا للنظام الليبرالي العالمي، للتنديد بما يرونه تواطؤًا أخلاقيًا وسياسيًا مع آلة القتل الصهيونية. هذه المظاهرات يمكن قراءتها كمؤشر لتحوّل في المزاج المجتمعي العالمي، في نفس الوقت الذي يلمح فيه عن تصدّع في الخطاب الغربي وهيمنته الرمزية على وعي الشعوب.

 

فبعد الدعم المباشر لدول مثل فرنسا وبريطانيا وحتى ألمانيا والتغاضي عن الجرائم التي يرتكبها العدو الصهيوني، بدأت ترفع انتقادات للانتهاكات الصهيونية، لاسيّما سياسات الحصار والتجويع الممنهجة ضدّ المدنيين الفلسطينيين ما يؤشر إلى تحول ملحوظ في مواقف عدد من الدول الأوروبية الرئيسة تجاه حرب الإبادة التي يشنّها الكيان المؤقت على قطاع غزة المستمر لأكثر من عام ونصف.

 

 

سقوط السردية الغربية

 

 

ترى الدكتورة صالح أنه لطالما قدّمت هذه الدول الغربية نفسها كمدافعة عن حقوق الإنسان، إلاّ أن الصمت والتواطؤ الدولي تجاه الإبادة الجماعية المجتمعية الممنهجة والتطهير العرقي في غزة يُعرّي هذا الخطاب. واستطاعت وسائل التواصل الاجتماعي بالرغم من سيطرة شركات اللوبي الصهيوني على التحكم بتوجيهها وسرديتها، إلاّ أن انتشار الفيديوهات المروعة من غزة، والتفاعل التواصلي المفتوح تُبيين أحقية القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعوب المهددة بهيمنة أمريكية – صهيونية في حقهم في الحياة والعلم والتقدم، فلم تعد هذه الشرائح الجديدة من الرأي العام تقبل بتبريرات أنظمتها السياسية، وتطالب بمواقف أخلاقية واضحة وتضع النظام العالمي الليبرالي أمام أزمة مشروعية.

 

 

وهكذا لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في كشف الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، إذ أصبحت منصات مثل تويتر وإنستغرام وتيك توك أدوات رئيسية لنقل صور الدمار والمعاناة إلى العالم. على الرغم من محاولات بعض الشركات الكبرى فرض رقابة على المحتوى الفلسطيني، إلا أن انتشار الفيديوهات والتقارير الميدانية ساهم في تغيير نظرة الجمهور العالمي تجاه الصراع.

 

 

في المقابل، تواجه المؤسسات الإعلامية التقليدية أزمة ثقة غير مسبوقة، إذ باتت شبكات مثل CNN وBBC تُتهم بالانحياز والتضليل، مما دفع الجمهور للبحث عن مصادر مستقلة أكثر مصداقية. هذا التغير في استهلاك الأخبار يعكس تحولًا في الوعي الجمعي، إذ لم يعد الجمهور يقبل الروايات الرسمية دون تمحيص.

 

 

التحولات السياسية في الغرب

 

 

تشير الدكتورة صالح إلى أنه لم يقتصر تأثير هذا التحول على الرأي العام فحسب، بل بدأ ينعكس على السياسات الرسمية لبعض الدول الغربية. في مايو/ أيار 2025، أصدرت سبع دول أوروبية بيانًا مشتركًا دعت فيه إلى إنهاء فوري للحصار المفروض على قطاع غزة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية بلا قيود، هذه الخطوة تعكس بداية تراجع الدعم التقليدي الذي حظي به الاحتلال الصهيوني لعقود.

 

 

كما أظهرت استطلاعات الرأي أن نسبةً كبيرة من سكان الدول الأوروبية باتوا ينظرون إلى الكيان المؤقت بشكلٍ سلبي، إذ سجلت تركيا أعلى نسبة رفض بلغت 93%، تليها اليابان (79%)، وهولندا وإسبانيا (78%)، السويد (75%)، إيطاليا (60%) وفرنسا، ألمانيا، بريطانيا، المكسيك يرفضون نتنياهو، مقابل 4 دول من أصل 21 دولة تؤيد «الكيان المؤقت»: نيجيريا، الهند، الأرجنتين وكينيا. حتى في الولايات المتحدة، التي تُعتبر الحليف الأقوى للكيان المؤقت، أظهرت الاستطلاعات أن 53% من الأمريكيين لديهم نظرة سلبية تجاهه، وحتى 85% من « الصهاينة» يرون بلادهم لا تحظى باحترام عالمي.

 

 

تعتبر الدكتورة صالح بأنه قد يرى البعض أن ما نشهده مجرد تضامن موسمي، لكن التحركات الشعبية الواسعة لقضايا أخلاقية محقة أحدثت تحولات مفصلية شهدتها البشرية سابقاً. ما يُعزز بأننا في مسار تحول ثقافي عالمي يعكس تغيّراً في الوعي الجمعي، ورفضاً متزايداً لعقود من الهيمنة السردية والسياسية الغربية.

 

 

ففي اللحظة التاريخية التي تُعيد فيها المجتمعات تعريف الأخلاق في السياسة الدولية، بارتكازها على ثوابت الحرية والإنسانية، تُشكل مقدمة لمرحلة جديدة من تفكيك الأنظمة الرمزية المهيمنة التي طالما برّرت الظلم لتنفيذ مشاريع القطبية الأمريكية، باتجاه أنظمة متعددة الأقطاب قد نجد فيها حيزاً لبعض الأخلاق السياسي تحت مسمى الإنسانية.

 

 

 صعود ثقافة المقاومة الرمزية

 

 

تؤكد الدكتورة صالح بأن هذه الاحتجاجات الحاشدة التي خرجت في دول كانت تعتبر نفسها حاملة لراية «حقوق الإنسان» تكشف عن مفارقة صارخة: النخب السياسية في هذه الدول تواصل دعم العدو الصهيوني بلا شروط، في حين أن قطاعات واسعة من شعوبها باتت ترى في هذا الدعم تواطؤاً مباشراً في جرائم ضد الإنسانية. ففي العقود السابقة، كانت القضايا الخارجية هامشية في اهتمامات المواطن الغربي العادي.

 

أمّا اليوم، ونحن أمام شواهد مباشرة مهولة لم يشهد لها تاريخ الإنسانية نظير بأن تتحالف كبريات الدول على عدوان بعناصر قوة خشنة اقتصادية، تقنية، عسكرية، وناعمة ترهيب وتجويع، وتشريد وتهجير بالقضاء على كل البُنى التحتية الحياتية في جرائم منظمة غير قابلة للدحض والتكذيب بفبركة اعتاد الإعلام التقليدي الغربي على صناعتها، على شعب يقاوم الاحتلال، لابدّ أن يعكس تراجعاً في قدرة الأنظمة على صناعة الوعي الجمعي لجمهورها. وتضيف الدكتورة صالح: إن المؤسسات الإعلامية الكبرى التي لطالما شكّلت أداة للهيمنة الناعمة، تواجه اليوم أزمة ثقة غير مسبوقة، شبكات مثل CNN وBBC  باتت تُتَّهم بالتضليل أو الإنحياز الفج، فيما تصعد منصات بديلة يقودها نشطاء وصحافيون مستقلون تكشف وقائع المجازر في غزة بلا رقابة أو تحريف، ما أنتج تناقضاً بين الخطاب الرسمي والضمير الشعبي. وتلفت الدكتورة صالح إلى أن هذا التناقض دفع بعض الدول الأوروبية باتخاذ خطوات دبلوماسية وقانونية تُشير إلى بوادر تراجع في نمط الدعم التقليدي الذي حظي به الكيان المؤقت منذ اندلاع الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكما أشرنا سابقاً أعلنت سبع دول أوروبية، في 16 أيار/ مايو 2025، بيانًا مشتركًا دعت فيه إلى إنهاء فوري للحصار المفروض على غزة، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية بلا قيود، وسط دعوات متزايدة لربط العلاقات مع الكيان المؤقت بمدى التزامها بالقانون الدولي واحترام حقوق الشعب الفلسطيني.

 

 

فهذه المؤشرات لا تُعبّر فقط عن تضامن مع غزة، بل عن رفض للبنية السياسية والاقتصادية العالمية التي تبرر القتل إذا كان يخدم المصالح الغربية. فهذه النسب توضع في أتون الحراك الشعبي وتُقرأ كتعبيرات عن «العنف الرمزي»، كما يسميه «بيير بورديو» في  مقاومة الشعب عبر إعادة تعريف ما هو «مقبول» أخلاقيًا.

 

 

وتختم الدكتورة صالح بالقول إن هذا التحوّل في المزاج المجتمعي لا يعني بالضرورة تغيراً فورياً في السياسات؛ لكنه قد يفتح الباب أمام إعادة تشكيل الاصطفافات السياسية داخل الدول الغربية عبر نمو تيارات تزيد الضغط على العدو الصهيوني ككيان مؤقت بعد «امتيازات الضحية» في الوعي العام العالمي.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص