علي متقيان*
أحد رموز نهضة الإمام الحسين(ع) المباركة، هو أن الدين وُضع في مواجهة الدنيا، بفعل أولئك الذين باعوا دينهم من أجل الدنيا، من عبّاد المال والمناصب.
فجميع الطامعين في المناصب الدنيوية – الذين فرضوا حرباً غير متوازنة على ابن رسول الله(ص) من أجل الدنيا – كان أكثرهم يعلمون أمام مَن وقفوا! ذلك الذي أرسلوا له بالأمس دعواتٍ، وبايعوا من جديدٍ عبر ممثله مسلم بن عقيل، ثمّ نقضوا بيعتينِ في يومٍ واحد، واصطفوا في وجه ابن رسول الله (ص) بحربٍ غير عادلةٍ طمعاً بزخارف الدنيا الزائلة.
في كلمات الإمام الحسين(ع) الموجّهة لهؤلاء الناكثين، أشار إلى صفتين، ظاهر الخطاب موجّه إلى أولئك القوم، لكن المعنى الحقيقي يخاطب البشرية جمعاء، إن وجدت آذاناً صاغية. قال الإمام الحسين (ع): “الناس عبيد الدنيا”.
وهو تأكيد خطير؛ فحين يصبح الناس عبيداً للدنيا، فإنهم يفعلون أي شيء من أجل الوصول إلى مطامعها. وهذا القول المبارك، وإن كان في ظاهره ينطبق على الجماعة التي اصطفّت للحرب ضد الإمام، إلا أن المقصود الحقيقي هو كل عبدٍ للدنيا عبر التاريخ.
الكلمة المهمة الثانية، دعوة الإمام الحسين(ع) إلى سبيل الرشاد في قلب المعركة، في يوم عاشوراء، وقف أمام جيش ابن سعد، وأمرهم بالصمت، ثم خاطبهم قائلاً: «إِنَّمَا أَدْعُوكمْ إِلى سَبِيلِ الرَّشَادِ، فَمَنْ أَطَاعَنِي كانَ مِنَ الْمُرْشَدِين، وَ مَنْ عَصَانِي كانَ مِنَ الْمُهْلَكينَ، وَ كلُّكمْ عَاصٍ لِأَمْرِي غَيرُ مُسْتَمِعٍ قَوْلِي، فَقَدْ مُلِئَتْ بُطُونُكمْ مِنَ الْحَرَامِ».
النظر ببساطة إلى الذين وقفوا ضد الإمام الحسين(ع) وجاؤوا لمحاربة ابن رسول الله(ص)، وفي المقابل مجموعة من نفس المنطقة أسرعت لنصرة الإمام الحسين(ع)، نلاحظ هذه النقطة والمقارنة المهمة:أن جيش ابن زياد وبني أمية الذين وقفوا ضد الإمام كانوا جميعاً مسلمين، يعترفون بنبوة النبي محمد(ص)، يتلون القرآن، يصلون نحو القبلة، يشهدون بنبوة خاتم الأنبياء(ص)، حتى أنهم جاؤوا للقتال «لوجه الله» وكانوا يرمون الحجارة «تقرباً إلى الله»، والأهم أن معظمهم كانوا يعرفون الإمام الحسين(ع) ومكانته ونسبه لرسول الله(ص)، وقد قرأوا مراراً في القرآن: «قُل لَّا أَسْأَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ» وكانوا يعلمون جيداً أن الشخص الذي يحاربونه هو آخر من تَبَقى للنبي(ص) الذي أمر القرآن بمودّة أقربائه.
أكثر من ذلك، باستثناء بني هاشم الذين جاؤوا مع الحسين(ع)، كان الطرفان من نفس المدينة ويعرفون بعضهم بعضاً، وكانوا مشاركين في دعوة ابن النبي(ص) بإرسال الرسائل.
هدف النهضة الحسينية
من خلال نظرة بسيطة إلى نهضة الإمام الحسين(ع)، يتضح أن الامام الحسين(ع) خرج لإصلاح دين جدّه، وقال بوضوح: “إذا تولّى يزيد أمر المسلمين، فعلى الإسلام، السلام”، وفي موضع آخر قال:”إِنْ كانَ دِينُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَسْتَقِمْ إِلَّا بِقَتْلِي، فَيَا سُيُوفُ خُذِينِي”، أي أن الإمام كان مستعداً للتضحية بنفسه من أجل بقاء الدين مستقيماً وصحيحاً. فكل جهوده، وكل ما تحمّله من آلام، كان في سبيل الأمر بالمعروف، وحماية دين النبي الخاتم محمد(ص).
الطرف الآخر؛ باع الدين من أجل السلطة
أما الطرف المقابل، فقد كان هدفه الوحيد هو تعزيز سلطته الدنيوية، ولو على حساب الدين، والضمير، والعقل، والفهم. كان مستعداً لبيع الدين باسم الدين، من أجل تثبيت منصبه ومكانته السياسية.
ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء “باعة الدين بالدنيا”، أولئك الذين خطّطوا لتولية يزيد ولاية العهد؛ فبحسب التاريخ، فإن معاوية لم يكن يملك الحق في تعيين خليفة له، وفقاً للاتفاق الذي أبرمه مع الإمام الحسن(ع)، والذي التزم به الإمام الحسين(ع) أيضاً. لكن المغيرة، والي الكوفة آنذاك، شعر بأن معاوية ينوي عزله، فذهب إليه، واقترح عليه تعيين وليّ عهد، بهدف الحفاظ على منصبه وتعزيز مكانته في السلطة.
معاوية ومغیرة.. حين يُباع الدين من أجل السلطة
كان معاوية راضياً في قرارة نفسه، لكنه اختلق ذريعة. أما المغيرة، فلكي يكسب رضا معاوية ويُبقي على منصبه الدنيوي لبضعة أيام إضافية، دبّر سيناريو يُظهر وكأنّ مطلب الناس هو تعيين خليفة. فمعاوية، الذي كان قلبه متعلّقاً بالسلطة الدنيوية، نفّذ خطة مصطنعة: أرسل مجموعة من أتباعه ليطلبوا، خلال خطبة الجمعة، أن يُعيّن معاوية خليفة له، بحجّة أنهم قلقون على مستقبل الإسلام والخلافة، وأنهم يريدون طمأنة قلوب المسلمين.
الخطة التي قدّمها المغيرة من أجل البقاء في السلطة، لم يكن يعنيه ما ستؤول إليه من نتائج على المسلمين؛ ما يهمّه فقط هو أن يبقى على كرسيه لبضعة أيام أخرى. أن يُمدّد إقامته في منصبه، ويستمتع بلذّات الدنيا، ولو كان الثمن بيع الآخرة، بل تدمير الإسلام وسفك دماء آلاف الأبرياء.
مهما كانت نتائج فعلته على المسلمين، لا تهمّه؛ المهم أن يكسب امتيازاً لدى معاوية، ليبقى في منصبه فترة أطول، ويغنم آلاف المنافع الدنيوية.
دخول عبيد الله بن زياد إلى الكوفة
من النقاط الجديرة بالتأمل، هي كيفية دخول عبيد الله بن زياد، الحاكم الأموي الدموي، إلى مدينة الكوفة؛ وهي مثال آخر على بيع الدين من أجل نيل المناصب الدنيوية، حيث كان هدفه الحصول على السلطة ونيل رضا الخليفة بدلاً من رضا الله.
فبعد مشاورة مع المستشار المسيحي ليزيد، أُوكل إلى عبيد الله من قبل يزيد مهمة تولّي ولاية الكوفة، بالإضافة إلى ولاية البصرة. وكان يعلم جيداً أنه لن يُسمح له رسمياً بدخول المدينة، لأنه كان على يقين بأن أهل الكوفة قد بايعوا مسلم بن عقيل، ممثل الإمام الحسين(ع)، وكانوا ينتظرون قدوم الإمام.
فاستغل عبيد الله محبة الناس للإمام الحسين(ع)، وغطّى وجهه، وأعلن أن الإمام قد دخل الكوفة، ثم دخل المدينة باسم الإمام الحسين (ع)!
ولأجل الوصول إلى السلطة، لم يكن لديه دين، وإن كان لديه ذرة من الضمير، فقد داسها تحت قدميه. ارتدى عباءة الدين، وأطلق عبر أعوانه شائعات في المدينة، تدعو الناس إلى الخروج لاستقبال الإمام الحسين(ع). فاستغل مشاعر الناس الذين يحبّون الإمام(ع)، ابن رسول الله (ص)، ومرّ بينهم بوجهٍ مغطّى، فتلقّى التحية والتشجيع، بينما لم يكن الناس يعلمون من هو القادم الحقيقي.
وحين دخل عبيد الله إلى دار الإمارة، كشف عن هويته الحقيقية، فصُدم الناس بأنهم استقبلوا سفّاحاً باسم الإمام الحسين (ع).
تخلّي الناس عن مسلم بن عقيل
في قضية مسلم بن عقيل، ومبايعة عامة أهل الكوفة للإمام الحسين(ع)، ثم تخلّيهم المفاجئ عنه، وتركه وحيداً حتى استُشهد، نجد مثالاً آخر على بيع الدين من أجل الدنيا.فأولئك الذين بايعوا مسلم بن عقيل، وتجمّع حوله الآلاف، وكانوا يعتبرونه ممثل الإمام، تراجعوا فجأة بسبب تهديدات عبيد الله بن زياد، التي تمثّلت في قطع المعونات المعيشية، ووعود دنيوية لم تتحقق قط. هؤلاء الناس، الذين كانوا بالأمس يحيطون بمسلم ويؤيدونه، تخلّوا عنه بمجرد تهديد يتعلق بالحياة الدنيوية، ونسوا أنهم بايعوه، وأنهم تعهّدوا بدعمه كممثل للإمام الذي دعوه بأنفسهم.
شرط ولاية الري لعمر بن سعد
مثال آخر على بيع الدين من أجل الدنيا، هو ما حدث حين اشترط عبيد الله بن زياد على عمر بن سعد، لتولّيه ولاية الري، أن يُنهي ثورة الإمام الحسين (ع). ورغم معرفة عمر بن سعد الكاملة بعقيدة الإمام وفكره، قبل هذا الشرط، وتولّى قيادة المعركة. كان يظن أنه يستطيع إنهاء القضية عبر الحوار والمفاوضة، ليصل إلى ولاية الري.
وخلال الحوار بين الإمام الحسين (ع) وعمر بن سعد، اتّضح هذا الطمع بجلاء، حين قال له الإمام صراحة: “لن تنال من قمح الري شيئاً، بل ستحرم حتى من تمر العراق.” فأجابه عمر ساخراً: “يكفيني شعير الري.”
لقد بلغ طمع عمر في ولاية الري حداً جعله يردّ على رسالة شمر، التي جاءته من عبيد الله بن زياد، وفيها يُقال له إنه غير قادر على تنفيذ المهمة ويجب أن يتنحّى، فقال بوضوح إنه سينهي القضية ويجعل ولاية الري له.
عمر بن سعد.. جريمة لا تُمحى من ذاكرة التاريخ
في سبيل الوصول إلى ولاية الري، ارتكب عمر بن سعد جريمةً تُعدّ من أبشع ما سُجّل في التاريخ، ظلماً بحق أهل بيت رسول الله (ص) لا يُرى له مثيل في صفحات الزمن.
وقد ورد في كتب التاريخ أن عمر بن سعد، حين أطلق أول سهم نحو جيش الإمام الحسين (ع) إيذاناً ببدء المعركة، صاح بفخر: “قولوا للأمير: أول سهم خرج من قوسي!”
لقد ارتكب هذه الجريمة حبّاً في السلطة الدنيوية، واشترى عاراً أبدياً مقابل حلمٍ لم يتحقق؛ فلم يصل إلى ولاية الري، بل حُرم حتى من تمر العراق.
شريح القاضي.. فتوى تُشترى بالذهب
مثال آخر على بيع الدين من أجل الدنيا هو ما فعله شريح القاضي، الذي كلّفه عبيد الله بن زياد بإصدار فتوى تُجيز قتل الإمام الحسين(ع).
وقد تمّت هذه الفتوى عبر مراحل تُظهر كيف يُباع الضمير مقابل المال: كان رسول عبيد الله يأتي إلى بيت شريح مراراً، وفي كل مرة يزيد عدد الدنانير المعروضة مقابل إصدار الحكم. وشريح، الذي يعرف مكانة الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام، كان يردّد كلمات النبي (ص) في فضلهما، ويُذكّر نفسه بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، لكنه لم يكن قادراً على اتخاذ القرار.
حتى منتصف الليل، حين طرق رسول عبيد الله بابه، لم يكن قد حسم أمره بعد. فقال له الرسول: > “أنت لست أهلاً لإصدار هذا الحكم! أعد كل الدنانير، وسنبحث عن غيرك.”
لكن شريح، الذي لم يستطع التخلي عن المال، طلب مهلة حتى صلاة الفجر. ظلّ يمشي ويفكّر، حتى توصّل إلى نتيجة مفادها أن إصدار الفتوى إثمٌ عظيم، لكنه قال لنفسه:”سأرتكب هذا الذنب، وأحصل على المال، ثم أتوب إلى الله التواب الرحيم، وسيغفر لي.”
وبهذا التبرير، أصدر فتوى قتل الإمام الحسين (ع)، وأخذ المال، ولم يُعرف عنه توبة ولا ندم.
المنسحبون في ليلة عاشوراء
حتى في واقعة ليلة عاشوراء، حين أطفأ الإمام الحسين(ع) الأنوار ورفع البيعة عن أصحابه، انسحب بعضهم من الساحة. كانوا قد رافقوه حتى تلك الليلة، لكنهم في اللحظات الأخيرة تركوه وحده، واتجهوا نحو الدنيا، وانفصلوا عن جيش الإمام الحسين (ع). لم يستطيعوا تحمّل هذا الخطر، وربما ظنّوا أنهم سينقذون أرواحهم، وأنهم سيحظون ببضعة أيام من حياة هادئة في الدنيا. لكنهم، حين فضّلوا الدنيا على نعمة نصرة الإمام الحسين(ع)، حُرموا من السعادة الأبدية.
هذه الأمثلة، وغيرها، تُظهر أن الذين وقفوا ضد هذه النهضة من أجل الدنيا، وارتكبوا كل أنواع الظلم بحق أهل البيت(ع)، لم ينالوا شيئاً من الدنيا التي رسموها لأنفسهم، بل فقدوا حتى ما كانوا يملكونه، وعاش كل واحد منهم حياة قصيرة مليئة بالشقاء، وانتهت حياتهم بالذل والمهانة.
نعم، هكذا هو الأمر. حين يُقال إن الشقاء والبؤس من نصيب من يبيع دينه من أجل دنياه، فإن الأسوأ هو من يبيع دينه من أجل دنيا الآخرين. ويمكن العثور على تجسيد حيّ لهذا الحديث في كربلاء، لأن واقعة كربلاء ونهضة أبي عبد الله الحسين(ع) ليست حدثاً وقع في لحظة وانتهى، بل إن آثارها الإيجابية والسلبية ستبقى لقرون، بل إلى الأبد، وستتكرّر وقائعها في صور مختلفة.
وفي هذا النص، تمّت الإشارة إلى نماذج من أولئك الذين باعوا دينهم مقابل الحصول على الدنيا، لكنهم لم ينالوا شيئاً مما حلموا به، بل أصبح كل واحد منهم مثالاً لـ”خسر الدنيا والآخرة”، وتحمّلوا خسارة عظيمة، واشتروا عار الوقوف في وجه ابن نبيّهم من أجل منصب دنيوي، وخلقوا واقعة سيبقى عارها خالدًا، ولم ينالوا شيئًا من الدنيا التي باعوا لأجلها دينهم وإنسانيتهم وكل ما يملكون.
*مدير عام مؤسسة إيران الثقافية والإعلامية