فالتاريخ الأميركي في لبنان والمنطقة ليس سجلًّا للسلام، بل سلسلة من الضغوط، الاغتيالات، والانقلابات الناعمة. واليوم، يعود الموفد توماس باراك بلغة الطمأنة، حاملاً “هندسة تفاوضية” ظاهرها الانفتاح، وباطنها تفخيخ الداخل، بينما مسيّرات العدو الصهيوني تملأ الأجواء.
ولأن التجارب لا تُكذّب، فإن الحديث عن “حصر السلاح بيد الدولة” يُعيدنا إلى محطات مؤلمة: من تفكيك المقاومة الفلسطينية بعد أوسلو، إلى حلّ الجيش العراقي بعد الغزو الأميركي، إلى تسليم ليبيا برامجها مقابل وعود لم تُحترم، وصولًا إلى المجازر التي وقعت في البوسنة بعد نزع سلاح مسلميها. في كل مرة، كانت النتيجة فراغًا أمنيًا وعدوانًا مضمَرًا. فكيف يُطلب من لبنان أن يسلّم مقاومته بينما لا تزال أرضه محتلة وسماؤه مخترقة؟
*ما قاله باراك… وما لم يقله
خرج باراك من قصر بعبدا مبتسمًا، واصفًا اللقاء بـ”البنّاء”، ومُبدياً ارتياحًا للورقة اللبنانية التي صيغت بموقف رئاسي موحّد. ولكن هذا الرضا لا يُعطي ضمانات، ولا يُثبت تعهدًا أميركيًا بإيقاف العدوان، ولا حتى التزامًا بكبح اليد الصهيونية. إنه تخدير تكتيكي، سبق أن شهدناه قبل اغتيال قادة كبار في المقاومة، كان سبقه أيضًا خطابًا أميركيًا “متفهمًا”.
وهذا ما يجعل تصريحاته أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة. وفي اللغة الأميركية، كل حديث عن السيادة والمكونات المحلية يكون تمهيدًا لتفكيك الجبهة الداخلية.
*بين التجارب والدروس: لماذا لا تُصدّق واشنطن؟
قبل كل تصعيد، تتكرر القصة: تطمينات أميركية، ترويج لتسويات، ثم صدمة في الميدان. ولبنان ليس أول من يُلدغ، فقد سبقه العراق عندما بشّر بريمر بـ”إعادة الإعمار”، فتحوّل البلد إلى فوضى مذهبية. وقبلها إيران، حين قيل إنها “شريكة” في الاتفاق النووي، ثم انقلبت واشنطن على كل التعهدات. وفي غزة، حديث الهدنة لم يدم طويلًا قبل أن تهوي الصواريخ الامريكية على الأبراج السكنية.
حتى في لبنان، لا ننسى أن اتفاق نيسان 1996، الذي صيغ بدعم أميركي، لم يمنع المجازر ولا الاعتداءات. فماذا يعني أن تقول أميركا إن “حزب الله شأن داخلي”؟ إنه ببساطة رفع المسؤولية عن الاحتلال، وتحويل الضحية إلى متّهم.
*حين يتحدث الشيطان بلغة السلام: قراءة في نوايا الأميركي
حين يتحدث الشيطان بلغة السلام، فإن المطلوب ليس الإصغاء إلى نبرة الصوت، بل فهم ما يُدار خلف الكواليس. زيارة توم باراك لم تكن بوابة تسوية، بل جولة جديدة من جولات الخداع الأميركي الممنهج، حيث يُستبدل الضغط العسكري بالتصعيد السياسي الناعم. لا جدول زمني، ولا التزامات، بل مفردات غامضة عن “الاستقرار” و”الهندسة”، طالما استخدمتها واشنطن قبل كل انقلاب استراتيجي. فحين يقول باراك إن “المشكلة يجب أن تُحل داخليًا”، وأنه “لا يحق لأميركا أو بريطانيا أو فرنسا أن تتدخّل لإقصاء حزب سياسي له تمثيل في البرلمان”. فهو بذلك لا يعترف بسيادة لبنان، بل يرمي كرة نزع السلاح في ملعب الداخل، بعد أن فشل الخارج في تحقيق هذا الهدف. هي محاولة لتفكيك معادلة الردع من الداخل، عبر خلق انقسام لبناني حول المقاومة وسلاحها، لا أكثر. فالهدوء في التصريح ليس نية سلام، بل تكتيك هجومي مقنّع، يعكس تحوّلًا في أدوات الضغط، لا في جوهر السياسة.
*باراك بعد هوكستين: هل نُلدغ من الابتسامة مرتين؟
تاريخ الوساطات الأميركية من هوكستين إلى باراك يكرّر نفسه بنمط مفضوح: وعود بالتهدئة يعقبها تصعيد، وكلام دبلوماسي معسول يخفي نيات عدوانية. لكن المقاومة التي خبرت هذا الأسلوب لم تُخدع بالأسلوب بل قرأت الجوهر: احتلال لم ينتهِ، واعتداءات لم تتوقف، وإدارة أميركية لا تُقدّم ضمانات بل أدوات ضغط لصالح أمن العدو. في هذا السياق، لم تعد الابتسامة الأميركية مدخلاً للحل، بل إنذارًا بتصعيد ناعم عنوانه: تفكيك الداخل تحت شعار “الحل الداخلي”، لكن المقاومة اليوم أكثر وعيًا وصلابة، فلا يُلدغ صاحب التجربة من باراك كما لُدغ من هوكستين.
*بين الرد اللبناني وثبات المقاومة
الرد الرسمي اللبناني – رغم مرونته – لم يتنازل عن الجوهر: لا تفاوض على السلاح خارج السيادة، ولا تسوية دون إنهاء الاحتلال. ودولة الرئيس نبيه بري، كان أكثر وضوحًا، حين أدرج “مطالب حزب الله” ضمن الورقة الرسمية، في تأكيد أن الحزب شريك في القرار، لا مجرد بند أمني يُناقش مع الأجانب.
في المقابل، ثبات المقاومة ظهر ليس فقط في عدم الانجرار نحو الاستفزاز، بل في وعيها لطبيعة المرحلة. لا وهم بتهدئة أميركية، ولا انخداع بابتسامة بارّاك. المقاومة – كما في حمراء الأسد – تزيدها الضغوط إيمانًا، والتهديدات صلابة. ومصطلح “حمراء الأسد”، يُراد منه الإشارة إلى أن الرد المعنوي والثبات بعد تهويل العدو أو نكساته يُعيد التوازن، تمامًا كما فعل النبي الأكرم (ص) بعد أحد.
وهذا ماينطبق على مقاومة لبنان بعد استشهاد قادتها أو التهديد الأميركي – مثل زيارة توماس باراك – يمكن أن يُقابل بثبات و”حمراء أسد” جديدة تعيد رسم المشهد السياسي والمعنوي من جديد.
*الخلاصة: لا تفاوض بلا توازن… ولا سلام بلا قوة
الخلاصة أن لا تفاوض بلا توازن، ولا سلام بلا قوة. فالولايات المتحدة لا تأتي بوساطتها لبناء حلول، بل لفرض معادلات ناعمة عنوانها نزع عناصر القوة من الداخل تحت شعار “السيادة”. لكنها تصطدم بثوابت المقاومة: أن السلاح ليس تفصيلاً داخليًا بل جوهر الصراع الإقليمي، وأن واشنطن ليست شريك سلام بل رأس مشروع الهيمنة. وفي ظل استنزاف متواصل واغتيالات وضغوط اقتصادية، المطلوب ليس فقط سلاحًا، بل وعيًا. فالوعي هو سلاح المرحلة، ومن جُرّبَت أميركا معه، لا يُفاجأ بنواياها.
لن تكون هناك حرب شاملة على الأرجح، لكن حرب الاستنزاف مستمرة: عبر طائرات، واغتيالات، وضغوط داخلية، وانهيار اقتصادي مبرمج. وهو ما يتطلب يقظة دائمة، وتماسكًا وطنيًا.