منذ أقدم العصور، شكّل الحجاب تجلياً بصرياً للفكر، والروح، والثقافة في المجتمعات المتعددة. لم يكن مجرد قطعة قماش تُرتدى، بل كان تعبيراً عميقاً عن الخصوصية، العفاف، والانتماء. في حضارات الشرق والغرب، من اليونان القديمة إلى حضارة بلاد الرافدين، ظهرت أشكال الحجاب كدلالة على المكانة الاجتماعية والهوية الأخلاقية. ومع قدوم الإسلام، ارتقى الحجاب إلى رمزية روحية، تربط الجسد بالروح وتمنح المرأة مساحة من الاحترام والوقار.
إن الحجاب ليس انعكاساً لمعتقد فردي فحسب، بل هو حوار متجدد بين الذات والمجتمع، وبين الجمال والاحتشام، يدعو إلى التأمل في كيف تُفهم المرأة، وكيف تختار أن تُعرّف نفسها في عالم يزداد تعقيداً.
أما في قلب التاريخ الإسلامي، تبرز واقعة كربلاء لا بوصفها ملحمة دموية فحسب، بل كـمدرسة روحية وثقافية، تُعلّم الأجيال معنى العفاف والحجاب في وجه الطغيان والانكسار.
يوم العفاف والحجاب في إيران
الحجاب في إيران ليس مجرد زي، بل هو تعبير عن الهوية الدينية والثقافية. منذ دخول الإسلام إلى إيران، أصبح الحجاب جزءاً من الحياة اليومية للنساء، يعكس الالتزام الديني والخصوصية الاجتماعية.
يصادف اليوم السبت، يوم العفاف والحجاب في إيران، وهو يومٌ يحمل في طياته رسالة ثقافية ودينية، تتجاوز حدود اللباس لتلامس جوهر الهوية. هذا اليوم ليس مجرد مناسبة رسمية، بل هو تذكيرٌ جماعيٌ بقيمة الحياء، وكرامة المرأة، ومكانتها في المجتمع الإسلامي. وقد جاء هذا اليوم تخليداً لذكرى أحداث مسجد كوهرشاد في مشهد المقدسة.
أحداث مسجد كوهرشاد
في 12 يوليو عام 1935، تحوّل مسجد كوهرشاد من بيتٍ للعبادة إلى ساحةٍ للغضب الشعبي، حيث اجتمع الآلاف رفضاً لسياسات رضاشاه المقبور التي حاولت فرض التغريب وكشف الحجاب على المجتمع الإيراني. لم تكن تلك الأحداث مجرد احتجاج على تغيير في المظهر، بل كانت صرخة مدوية دفاعاً عن الهوية الدينية والثقافية للشعب، قادها علماء الدين والمواطنون الرافضون للسياسات التي اعتبروها اعتداءً على ثوابتهم. وقد شكّلت مجزرة كوهرشاد علامة فارقة في تاريخ إيران المعاصر، وأرست أسساً لحراك شعبي سيظل حاضراً في الذاكرة الجماعية.
وتبقى المرأة الإيرانية المحجبة شاهدةً على تاريخٍ من الصمود، والاختيار الواعي، والارتباط العميق بأهل البيت(ع)، وفي أجواء شهر محرم الحرام نتطرق في هذا المقال إلى حجاب أهل البيت(ع) بصورة مختصرة.
الحجاب في ملحمة كربلاء
في قلب ملحمة كربلاء المقدسة، لم يكن الحجاب مجرد قطعة قماش تستر الجسد، بل كان رايةً للكرامة والصمود، حملتها نساء أهل البيت(ع) في وجه الطغيان والذل. وسط أجواء الدماء والدموع، تجلّى الحجاب كرمزٍ للعفاف والهوية، وبرزت السيدة زينب(س) مثالاً حيّاً للمرأة المؤمنة التي لم تهتز رغم المصائب، بل حافظت على سترها ووقارها حتى في لحظات السبي. لقد كان الحجاب في كربلاء درعاً روحياً يحمي القيم والمبادئ، ويُعلن أن المرأة المسلمة لا تُقهر ما دامت متمسكةً بعزّتها وإيمانها. ومن خلال هذا الحجاب، نطقت كربلاء برسالة خالدة: أن العفاف ليس ضعفاً، بل هو قوةٌ تُقاوم بها النساء طغيان الزمان.
سترٌ للروح قبل الجسد
الحجاب في مدرسة أهل البيت(ع) ليس مجرد لباس، بل هو تجلٍّ للعفاف، ودرعٌ للكرامة، وبيانٌ للهوية الإيمانية. وقد وردت عنهم عليهم السلام روايات كثيرة تؤكد على أهمية الحجاب، منها قول أمير المؤمنين(ع) في وصيته للإمام الحسن(ع): «واكْفُفْ علَيهِنَّ مِن أبْصارِهِنَّ بحَجْبِكَ إيّاهُنَّ، فإنَّ شِدَّةَ الحِجابِ خَيرٌ لكَ و لَهُنَّ…» (نهج البلاغة، الكتاب 31). وكانت السيدة فاطمة الزهراء(س) مثالاً حيّاً للحجاب الكامل.
النساء في عاشوراء.. حضورٌ لا يُختزل
شهدت نهضة الإمام الحسين(ع) مشاركة واسعة للنساء من اهل البيت(ع)، سواء في مراحل الانطلاق، أو في قلب المعركة، أو في ما بعدها من أحداث الأسر والسبي. وقد بلغ عدد النساء المشاركات في الركب الحسيني نحو 84 امرأة وفتاة، حملن على عاتقهن أدواراً متعددة: الرعاية والدعم اللوجستي، التحريض على الجهاد، نقل الرسالة الحسينية بعد الواقعة، الدفاع عن الإمامة والولاية.
حتى النساء اللواتي لم يرافقن الركب، مثل أم البنين(س) وأم سلمة،كنّ من أبرز الناشرات لثقافة كربلاء في المدينة ومناطق أخرى.
الحجاب حين يصبح رايةً للثورة
في كربلاء المقدسة، لم يكن الحجاب مجرد ستر، بل كان موقفاً سياسياً وروحياً. السيدة زينب(س)، العقيلة، وريثة النبوة، خرجت من خدرها لا لتتنازل عن حجابها، بل لتجعله رايةً للكرامة في وجه الطغيان.
رغم الأسر، والسبي، والمجالس، لم تتخلَّ عن حجابها، بل كانت تُخفي وجهها عن أعين الظالمين، وتُخاطبهم من وراء ستر، وتُلقّنهم دروساً في البلاغة، والصبر، والعزة.
رغم أن نساء أهل البيت(ع) تعرضن للسبي، والضرب، والإهانة، إلا أنهن حافظن على الحجاب بكل ما استطعن. وقد ورد في الروايات أن السيدة زينب(س) كانت تجمع النساء وتحرص على سترهنّ، حتى في لحظات الهجوم على الخيام.
وكانت السيدة سكينة بنت الحسين(س)، رغم صغر سنها، تُخفي وجهها عن أعين الجنود، وتُحاول ستر نفسها بما تبقّى من خيام محترقة.
في كربلاء، لم يكن الحديث عن العطش أو الجوع أو اليُتم، بل عن الحجاب والكرامة. رغم أن الأرض كانت مليئة بالأشواك، والخيام تُحرق، والجنود يهاجمون، كانت النساء والأطفال يُحافظون على سترهم. وقد روت السيدة فاطمة الصغرى(س) أن أحد جنود عمر بن سعد طعنها بالرمح في كتفها، ومع ذلك لم تتخلَّ عن حجابها.
كانت السيدة زينب(س) صوت الحجاب حين يُصادر، وصوت المرأة حين تُهان، وصوت الثورة حين تُخنق.
الحجاب الزينبي؛ رسالةٌ خالدة
كربلاء لم تكن لحظة، بل منهج حياة. والحجاب فيها لم يكن عباءةً سوداء فحسب، بل موقفاً، وصوتاً، ورايةً. كل امرأة ترتدي الحجاب عن قناعة، هي زينبٌ في زمانها، تحفظ الحياء، وتُدافع عن القيم، وتُعلّم العالم أن العفاف لا يُؤسَر، ولا يُهزم.
الحجاب بين الماضي والحاضر
من كربلاء إلى طهران، ومن السيدة زينب(س) إلى المرأة الإيرانية المعاصرة، يبقى الحجاب رمزاً للهوية، ورايةً للكرامة، وجسراً بين الأرض والسماء.
ليس الحجاب قيداً، بل هو اختيارٌ واعٍ، وولاءٌ لأهل البيت(ع)، فكل امرأة ترتدي الحجاب عن قناعة، هي زينبٌ في زمانها، وصوتٌ في وجه يزيد العصر.