في عالم تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية، لم تعد الأدوات الاقتصادية تُستخدم فقط لتحقيق النمو والازدهار، بل باتت تُستغل كوسائل للضغط والعزل والاحتواء. هذا ما عبّر عنه رئيس الوزراء الماليزي «أنور إبراهيم» في افتتاح قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان»، حين وجّه انتقاداً لاذعاً للتعريفات الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على واردات بلاده. لم يذكر الولايات المتحدة بالإسم، لكن الرسالة كانت واضحة: واشنطن تستخدم الاقتصاد كسلاح في معركة النفوذ العالمي، وماليزيا ترفض أن تكون ضحية لهذا الصراع.
في هذا السياق، تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الحسابات السياسية، وتجد دول مثل ماليزيا نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم علاقاتها التجارية وتحالفاتها الاستراتيجية. فهل تستطيع كوالالمبور الصمود أمام الضغوط الأميركية؟ وهل ستنجح في الحفاظ على توازنها بين الشرق والغرب؟
التعريفات الأميركية.. سياسة اقتصادية أم عقاب جيوسياسي؟
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلن دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على واردات بلاده من عدة دول، من بينها ماليزيا، ولاوس بنسبة 40%، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية. الهدف المعلن هو دفع هذه الدول إلى توقيع اتفاقيات تجارية جديدة مع الولايات المتحدة، لكن الرسالة الضمنية كانت أكثر تعقيداً. فهذه الخطوة تأتي في سياق تصاعد التوترات بين واشنطن وبكين، ومحاولة أميركية لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
ماليزيا، التي تعتمد بشكل كبير على التصدير، وجدت نفسها في مرمى هذه السياسات. فالصناعات الإلكترونية، التي تشكل العمود الفقري لاقتصادها، مهددة الآن بفقدان أسواقها الأميركية، ما قد يؤدي إلى تباطؤ النمو وزيادة البطالة. ورغم أن الحكومة الماليزية أكدت أنها لا تتوقع ركوداً اقتصادياً، إلا أنها بدأت فعلياً بمراجعة توقعات النمو التي كانت تتراوح بين 4.5% و5.5%.
موقف ماليزيا.. رفض ضمني ومقاومة دبلوماسية
في كلمته في افتتاح قمة آسيان، قال أنور إبراهيم إن «الأدوات التي كانت تُستخدم لتحقيق النمو أصبحت تُستخدم الآن للضغط والعزل والاحتواء»، مضيفاً أن «الرسوم الجمركية والقيود على الصادرات والاستثمار أصبحت أدوات للتنافس الجيوسياسي». ورغم أنه لم يذكر الولايات المتحدة صراحة، إلا أن توقيت التصريحات ومضمونها جعلا من الواضح أن المقصود هو السياسة الأميركية الجديدة.
ماليزيا، التي تتولى هذا العام الرئاسة الدورية لرابطة آسيان، تحاول استخدام موقعها القيادي للدفع نحو موقف موحد من هذه السياسات. لكنها تواجه تحديات داخلية وخارجية، أبرزها الانقسامات بين دول الرابطة، والحرب الأهلية في بورما، والتوترات الحدودية بين تايلاند وكمبوديا. ورغم ذلك، أكد وزير التجارة الماليزي «تنكو ظفرول عزيز» أن بلاده ستواصل المفاوضات الثنائية مع واشنطن، معبّراً عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق قبل دخول الرسوم حيز التنفيذ في الأول من أغسطس/ آب.
آسيان في قلب العاصفة.. بين واشنطن وبكين
رابطة دول جنوب شرق آسيا تجد نفسها اليوم في موقف لا تُحسد عليه. فمن جهة، تسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الكبرى، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطاً متزايدة من واشنطن لتعديل سياساتها التجارية. زيارة وزير الخارجية الأميركي «ماركو روبيو» إلى ماليزيا، والتي تزامنت مع القمة، لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل كانت رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة تراقب عن كثب مواقف دول آسيان، وتنتظر منها التزاماً أكبر بسياساتها.
لكن هذه الضغوط قد تأتي بنتائج عكسية. فبدلاً من دفع دول آسيان إلى التقارب مع واشنطن، قد تدفعها إلى تعزيز علاقاتها مع الصين، التي تقدم نفسها كبديل اقتصادي واستراتيجي أكثر استقراراً. الصين، بدورها، لم تفوّت الفرصة، وبدأت بتكثيف استثماراتها في البنية التحتية في دول آسيان، وتوسيع نطاق اتفاقيات التجارة الحرة معها.
التأثيرات الاقتصادية.. بين التهديد والفرص
الرسوم الجمركية الأميركية تهدد بشكل مباشر عدداً من القطاعات الحيوية في الاقتصاد الماليزي. قطاع الإلكترونيات الدقيقة، الذي يشكل أكثر من 30% من صادرات البلاد، سيكون الأكثر تضرراً، خاصةً أن العديد من الشركات الأميركية تعتمد على المكونات الماليزية في سلاسل التوريد الخاصة بها.
كما أن قطاع الصناعات التحويلية، الذي يشمل المنتجات البلاستيكية والمطاطية والميكانيكية، سيواجه صعوبات في الحفاظ على تنافسيته في ظل ارتفاع التكاليف.
أما المنتجات الزراعية، مثل زيت النخيل والمطاط، فقد تتعرض لقيود إضافية، خاصةً في ظل الحملات الأميركية المتعلقة بالاستدامة والبيئة.
في المقابل، ترى الحكومة الماليزية في الأزمة فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد، وتعزيز الاعتماد على السوق الداخلية. وقد بدأت بالفعل في إطلاق برامج لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز الابتكار، وتوسيع نطاق التجارة مع دول الجنوب العالمي. فبدلاً من الاعتماد المفرط على السوق الأميركية، بدأت الحكومة الماليزية في تعزيز علاقاتها التجارية مع الصين والهند، واستكشاف أسواق جديدة في أفريقيا وأميركا اللاتينية.
لكن هذه التحولات لن تكون سهلة. فالبنية التحتية الاقتصادية لا تزال بحاجة إلى تطوير، والقطاع الصناعي يواجه تحديات في التنافسية والجودة. كما أن التحول نحو السوق الداخلية يتطلب تغييرات جذرية في السياسات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية.
خيارات كوالالمبور.. بين المواجهة والمرونة
أمام ماليزيا اليوم ثلاثة خيارات رئيسية. الأول هو الاستمرار في التفاوض مع واشنطن ومحاولة تخفيف الرسوم عبر تقديم تنازلات محدودة. الثاني هو الانضمام إلى تحالفات تجارية بديلة، مثل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، التي تقودها الصين. أما الخيار الثالث، فهو تبني سياسة اقتصادية أكثر استقلالية، تعتمد على السوق الداخلية والابتكار المحلي.
كل خيار لديه مخاطره، لكن ماليزيا تبدو مصممة على عدم الرضوخ للضغوط الأميركية. فهي تدرك أن مستقبلها الاقتصادي لا يمكن أن يُبنى على التبعية، بل على التنوع والاستقلالية.
ماليزيا في قلب التحول العالمي
ما يجري اليوم بين ماليزيا والولايات المتحدة ليس مجرد خلاف تجاري، بل هو انعكاس لتحول عميق في النظام العالمي. لم تعد الدول الصغيرة تقبل أن تكون بيادق في لعبة الكبار، بل تسعى إلى بناء تحالفات جديدة، وتحديد مصيرها بنفسها. وفي هذا السياق، تُمثل ماليزيا صوتاً جريئاً في عالم يتغير، يرفض العزلة، ويطالب بالعدالة الاقتصادية.
التعريفات الجمركية الأميركية قد تكون بداية مرحلة جديدة من الصراع الاقتصادي العالمي، لكن ردود الفعل من دول مثل ماليزيا تشير إلى أن هذه السياسات لن تمر دون مقاومة. فالعالم لم يعد أحادياً، والتعددية أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله. وبينما تواصل واشنطن فرض شروطها، تواصل كوالالمبور الدفاع عن سيادتها الاقتصادية، في معركة قد ترسم ملامح النظام العالمي القادم.