حراك شعبي في بريطانيا ضد الإبادة في غزة

احتجاجات تُواجَه بالإعتقال.. ورسائل برلمانية تُطالب بالتحرك

الحراك الشعبي والبرلماني في بريطانيا بمثابة تعبير صارخ عن تصاعد موجة الغضب الشعبي ضد السياسات البريطانية تجاه القضية الفلسطينية

في قلب العاصمة البريطانية، لم تكن الهتافات التي تعالت أمام تمثال نيلسون مانديلا مجرد صوت احتجاج عابر، بل كانت تعبيرًا صارخًا عن تصاعد موجة الغضب الشعبي ضد السياسات البريطانية تجاه القضية الفلسطينية. تزامن هذا الغليان الشعبي مع حراك برلماني هو الأوسع من نوعه في السنوات الأخيرة، إذ وجّه أكثر من 60 نائبًا من حزب العمال البريطاني رسالة إلى وزير الخارجية يطالبونه فيها بالاعتراف الفوري بدولة فلسطين، في وقت تتعرض فيه غزة لممارسات وصفت بأنها «تطهير عرقي».

 

 

التحرك البرلماني لم يأتِ من فراغ، بل جاء متناغمًا مع مشهد غير مسبوق في الشارع البريطاني، تَمثَّل في اعتقال عشرات المتظاهرين في لندن لمجرد دعمهم حركة «فلسطين أكشن»، المصنّفة مؤخرًا كمنظمة محظورة. هذه الاعتقالات فتحت بابًا واسعًا للتساؤلات حول حرية التعبير، ومدى التداخل الأمني بالسياسي، وسط تزايد الأصوات المطالبة بكسر جدار الصمت الرسمي، واتخاذ موقف حاسم يُنصف الحق الفلسطيني.

 

 

صرخة سياسية ضد التطهير وضم الأرض

 

 

تزامنًا مع تصاعد العمليات العسكرية الصهيونية في قطاع غزة، وجّه نواب من حزب العمال البريطاني رسالة إلى وزير الخارجية «ديفيد لامي»، دعوه فيها للاعتراف الفوري بدولة فلسطين، محذرين من أن عدم القيام بهذه الخطوة يعني التخلي فعليًا عن سياسة حل الدولتين، ويُبقي على وهم إمكانية استمرار الوضع الراهن، الذي من شأنه أن يؤدي إلى ضم الأراضي الفلسطينية ومحوها سياسيًا وجغرافيًا.

 

الرسالة التي نشرتها صحيفة «ذا غارديان» البريطانية يوم السبت 12 يوليو/ تموز 2025، حملت توقيع نواب من مختلف التيارات داخل حزب العمال، من الوسط إلى اليسار، ما يعكس تحولًا داخليًا في موقف الحزب تجاه القضية الفلسطينية. النواب لم يكتفوا بالمطالبة بالاعتراف، بل دعوا إلى اتخاذ خطوات فورية لوقف ما وصفوه بـ«الجرائم ضد الإنسانية» التي يرتكبها كيان العدو في غزة، مؤكدين أن الصمت البريطاني لم يعد خيارًا أخلاقيًا أو سياسيًا.

 

 

خطة رفح.. إعادة تموضع أم تهجير ممنهج؟

 

 

الشرارة التي دفعت النواب إلى التحرك كانت إعلان وزير الدفاع الصهيوني، يسرائيل كاتس، عن خطة لإجبار سكان غزة على الانتقال إلى منطقة رفح، وتحويلها إلى ما سماه «مدينة إنسانية» مؤقتة، تتكون من خيام، وتخضع لفحص أمني صارم، على ألا يُسمح للسكان بمغادرتها لاحقًا. هذه الخطة، التي تهدف إلى نقل أكثر من 600 ألف فلسطيني في المرحلة الأولى، أثارت موجة من الغضب داخل الأوساط الحقوقية والسياسية، ووصفت بأنها محاولة ممنهجة لإعادة تموضع السكان تمهيدًا لترحيلهم إلى مصر أو عبر البحر.

 

 

النواب البريطانيون استندوا في رسالتهم إلى تصريحات المحامي الصهيوني البارز «مايكل سفارد»، الذي وصف الخطة بأنها «خطة عملياتية لارتكاب جرائم ضد الإنسانية»، معتبرًا أن ما يجري هو ترحيل جماعي، بل تطهير عرقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

 

 

لغة غير مسبوقة ومطالب واضحة

 

 

الرسالة التي وجهها النواب إلى وزير الخارجية البريطاني جاءت بلغة غير معتادة في الخطاب السياسي البريطاني، إذ استخدموا مصطلحات مثل «التطهير العرقي»، و«الضم الفعلي»، و»محو الأراضي الفلسطينية»، وهي تعبيرات تعكس حجم القلق والغضب من السياسات الصهيونية الأخيرة.

 

 

كما تضمنت الرسالة دعوة لاتخاذ خمس خطوات فورية، من بينها وقف دعم الحكومة الصهيونية في تنفيذ خطتها في رفح، إعادة تمويل وكالة الأونروا، فرض حظر تجاري على المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، والأهم من ذلك الاعتراف الفوري بدولة فلسطين.

 

 

التزام غامض وتوقيت غير محدد

 

 

في المقابل، جاء رد وزارة الخارجية البريطانية على لسان المتحدث الرسمي، أكد فيه أن المملكة المتحدة «ملتزمة بالاعتراف بدولة فلسطينية»، لكنها ستقوم بذلك «عندما يكون لذلك التأثير الأكبر في دعم عملية السلام». هذا الرد، الذي لم يتضمن أي جدول زمني أو خطوات عملية، اعتبره النواب الموقعون على الرسالة تراجعًا عن المبادئ، وتواطؤًا ضمنيًا في استمرار الاحتلال والتهجير.

 

 

النواب شددوا على أن الاعتراف الفوري ليس مجرد خطوة رمزية، بل ضرورة سياسية وأخلاقية لإعادة التوازن إلى الموقف البريطاني، الذي بات يُنظر إليه على أنه منحاز ضمنيًا لكيان العدو، خاصة في ظل الدعم العسكري واللوجستي الذي تقدمه لندن لتل أبيب.

 

 

«فلسطين أكشن» في قلب المعركة

 

 

بينما تتصاعد المطالبات داخل البرلمان، اندلعت مظاهرات واسعة في لندن ومدن بريطانية أخرى، دعمًا لحركة «فلسطين أكشن» التي تستهدف مؤسسات عسكرية ومصانع تصدّر أسلحة لكيان العدو، من بينها منشآت تابعة لشركة «أنظمة إلبيت». عقب اقتحام مجموعة من الناشطين قاعدة لسلاح الجو الملكي البريطاني وتخريب طائرتين، أصدرت الحكومة قرارًا بتصنيف الحركة كمنظمة محظورة بموجب قوانين مكافحة الإرهاب. في السبت الماضي، ألقت شرطة لندن القبض على 41 متظاهرًا بتهمة إظهار دعمهم للحركة المحظورة، واعتُقل شخص واحد بتهمة الاعتداء، في تصعيد لافت لطريقة تعامل السلطات مع الاحتجاجات المناهضة للاحتلال. كذلك شهدت مانشستر وكارديف وإيرلندا الشمالية مظاهرات متزامنة تخلّلها اعتقالات أخرى. وجاء هذا التحرك الشعبي في وقت يتزامن فيه انعقاد محكمة العدل الدولية في لاهاي للنظر في دعوى رفعتها جنوب أفريقيا ضد كيان العدو، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة.

 

 

غزة.. أرقام مرعبة ومجاعة تتفاقم

 

 

في موازاة هذا التصعيد السياسي، جاءت تقارير منظمة «أطباء بلا حدود» لتكشف عن جانب آخر من المأساة. المنظمة أعلنت أنها سجلت أعلى عدد من حالات سوء التغذية الحاد منذ بدء عملها في غزة، مشيرةً إلى أن أكثر من 700 امرأة حامل ومرضعة، ونحو 500 طفل، يعانون من سوء تغذية حاد ومتوسط. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل مؤشرات على كارثة إنسانية تتفاقم يومًا بعد يوم، في ظل حصار خانق ونقص حاد في الغذاء والإمدادات الطبية.

 

 

المنظمة شددت على أن تدفق المساعدات بشكل مستدام وعاجل إلى القطاع بات أمرًا ضروريًا، محذرة من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى انهيار كامل للنظام الصحي، ومزيد من الوفيات بين الفئات الأكثر ضعفًا، خاصةً الأطفال والنساء.

 

 

 

مواقف أوروبية متباينة

 

 

الرسالة البرلمانية البريطانية جاءت في وقت تشهد فيه أوروبا تحولات ملحوظة في الموقف من القضية الفلسطينية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته إلى لندن، دعا إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار في غزة، وأكد أن الاعتراف المشترك بدولة فلسطين هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام. هذه التصريحات شكلت ضغطًا إضافيًا على الحكومة البريطانية، التي لا تزال تلتزم بموقف حذر، وتؤكد أنها ستعترف بفلسطين «عندما يكون لذلك التأثير الأكبر».

 

 

لكن النواب الموقعين على الرسالة يرون أن هذا التردد لم يعد مقبولًا، خاصةً في ظل التصعيد الصهيوني الأخير، الذي يهدد بنسف أي إمكانية لحل الدولتين. وهم يعتبرون أن الاعتراف الفوري بفلسطين ليس فقط خطوة أخلاقية، بل ضرورة سياسية لإعادة التوازن إلى الموقف البريطاني، الذي بات يُنظر إليه على أنه منحاز ضمنيًا لكيان العدو.

 

 

تحول داخل حزب العمال

 

 

ما يُميز هذه الرسالة عن سابقاتها هو أنها جاءت موقعة من نواب ينتمون إلى تيارات مختلفة داخل حزب العمال، من الوسط إلى اليسار، مما يعكس وجود إجماع داخلي متزايد على ضرورة تغيير السياسة البريطانية تجاه فلسطين. كما أن الرسالة نُشرت بأسماء الموقعين، في خطوة غير معتادة، تعكس رغبة في إحداث تأثير سياسي مباشر، وليس مجرد تسجيل موقف رمزي.

 

 

وقد تم تنسيق الرسالة عبر مجموعة «أصدقاء فلسطين والشرق الأوسط» التابعة للحزب، والتي باتت تلعب دورًا محوريًا في دفع الحزب نحو تبني مواقف أكثر وضوحًا في دعم الحقوق الفلسطينية. من بين الموقعين على الرسالة شخصيات برلمانية بارزة، مثل النائبة «سارة أوين» والنائب «ليام بايرن»، إلى جانب عدد من أعضاء اللجان البرلمانية المتخصصة.

 

 

هل يكون الاعتراف البريطاني نقطة تحول؟

 

 

في ظل هذا الزخم السياسي والإنساني، يبقى السؤال الأهم: هل تستجيب الحكومة البريطانية لهذا النداء؟ وهل يكون الاعتراف بدولة فلسطين نقطة تحول في مسار القضية، أم مجرد خطوة رمزية لا تغير من الواقع شيئًا؟ وهكذا مع كل مظاهرة تُقمع، وكل نائب يُصعد خطابه، تتعاظم الأسئلة حول جدية المملكة المتحدة في إعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط. الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد مجرد مطلب دبلوماسي مؤجل، بل تحوّل إلى ضرورة أخلاقية وسياسية، في ظل مشهد دموي متواصل في غزة وتحوّل الشارع البريطاني إلى ساحة تضامن رغم الاعتقالات والتضييق.

 

 

 

المصدر: الوفاق